كتب نصري الصايغ
ماذا غداً؟ لا شيء أبداً. إنه ماضٍ لا يمضي. إنما، أُفاجأ كل يوم بمزيد من القتل. أتساءل ولا أجد أجوبة. ليتني أعرف الطريق إلى الاستسلام، أو ليتني أعلن بصوت عال: "أنا خائف فقط من الجنون". جنون الحروب، تمارين على الإبادة. إتقان التسلح. امتهان التعصب إلى درجة الهمجية. فقدان الإنسانية عند من يدّعي أنه إنسان. تلاسن الأديان بمقذوفات قاتلة. توظيف "الله" بالعنف، واتهامه بما لا يوصف من البراءات والفضائل المنعدمة. أحياناً، أتساءل: لماذا كل هذا؟ صوتٌ قادمٌ من أزمنة سحيقة يقول: “إبحث عن أكلة لحوم البشر”. ستجدهم في القارات الخمس. إذاً، علينا أن نُبرّئ أصدقاءنا من الحيوانات. من جرائم هشة ونادرة. الحيوانات بريئة من دمائنا، ونحن موغلون في الارتكاب.. حتى أننا نقتل العصافير.. “خلص”. جميعنا متهمون. صرنا نُجسّد كل الموبقات السياسية، المدنية، الدينية، المالية، التربوية والأخلاقية إلخ.. صرنا نُمثل كلّ ما سلب من براءة الإنسان وفطرته.. والغريب، أننا نخون سلالتنا كفضيلة.. إذاً، جميعنا متهمون. جائزة مجزية لمن يجد ملاكاً واحداً في هذه القارات. نعم. أجب عن هذا السؤال: ماذا غداً؟ جوابٌ مختصرٌ. الغد أسوأ من الأمس. الغد مفتوح على الإبادات، وبالمناسبة، ليس هذا جديداً أبداً. تاريخ “إنسانية” الإنسان، مكتظ بالإبادات. ما تتعرّض له غزة، حدث من قبل مراراً. ليست هذه هي المرة الأولى. إبادة علنية منقولة، صوتاً وصورة وأشلاءً ودماءً ودموعاً وسبياً ومطاردة وبتراً وتمزيقاً واغتيالاً وإفناءً.. والعالم “الأخو الـ..” يغسل يديه، ويتهم الضحايا في فلسطين، بأنهم مرتكبون.
نعم. الفلسطيني مرتكبٌ لأفدح القيم: أريد أن أحيا في بلدي. وهذه الأرض لي، من زمان، ربما، من قبل أن يقتل قابين هابيل. قابين لم يمت. قابين العصر راهناً، جموعٌ وآلاتٌ وطوفانُ قنابل وأسلحة من عبقرية لا إنسانية بالمرة.. ما أرحم الجنون. لن تجد ملاكاً واحداً في هذا العالم. غزة وحيدة. وحيدة. وحيدة. وقلةٌ معها، دفعت أكبر الأثمان وخرجت مضرَّجة بالشهداء.
نعم، لم نجد ملاكاً واحداً.. ولن نجد.. حصتنا من هذا العالم، جحيمٌ هنا وجحيمٌ هناك. هذه هي دمشق راهناً. من أربعة عشر عاماً، وهي تتشلّع. تُقاتل. تَقتل. تُقتل. همجية مرعبة. “كيف يقتل الأخ أخاه في الوطن”.
ما هذا السؤال؟ ما هذا الغباء؟ القتل في القارة العربية أقوى من آبار النفط وخزائن الدولارات.. دمشق دخلت في النفق مراراً. هذه المرة، لم تعد سوريا سوريّة. إنها على منصة التذابح. وليس ذلك غريباً.. الطوائف، مشاريع دمار وتدمير وقتل: سنّة وشيعة ودروز وعلويون ومسيحيون.. وأكراد. و.. إلى آخره من ترهات الطوائف والـ.. إلى آخرنا. إننا نُقلد غرباً، دامت فيه حروب الطوائف مئة عام. بلادنا، منذ قرن، مفتونة بدمها. أخطاؤنا كبيرة. اشتركنا جميعاً باحتفالات القتل والإبادات.. قرنٌ عربيٌ مشين. قليلة هي السنوات التي سمعنا فيها عبارة “إرفع رأسك يا أخي”. ورفعنا رؤوسنا. وعندما اندلع الخامس من حزيران/يونيو، خجلتُ من رأسي ومن نفسي. كسر أخي المرآة في البيت، كي لا نرى فجيعتنا وخسارتنا. إنه لشرف أن يموت الإنسان كي لا يرى ما رأيناه. حظنا في هذه الدنيا، قبلاً وراهناً، في مدار جديد ـ قديم: “جاذبية القتل أقوى من الحياة وأرفع من خرافة الإنسانية”. لماذا كل هذا؟ تعالوا نُسمي الأشياء بأسمائها:
نؤمن بإله واحد. حسناً. هذا قول فقط. واقعاً، نؤمن بأن القوة هي القول الفصل. أي، إن لم تكن ذئباً، أكلتك الذئاب. والذئب الكبير يأوي الصغير ليأكله.. راهناً، أميركا، هي الذئب الأكبر. ترعى الكرة الأرضية، على قاعدة فذة: “ما هو لي، هو لي وحدي، وما هو لك، هو لي أيضاً”.
عقيدة راسخة سبق أن كانت دول وقيادات، فتكت باسم الدين والعنصر والجغرافيا والسلطة.. ترك لنا التراث الإنساني أسماء بالغة الحضور حتى اللحظة: تيمورلنك، جنكيز خان، بونابرت، موسوليني، هتلر، تشرشل، ستالين، تشاوشيسكو، وعددٌ متناسلٌ من الزعماء والملوك والأمراء والرؤساء “العرب”، الذين مارسوا ديكتاتورية حذف الشعب من الوجود الإنساني. ماذا غداً؟ أولاً: الاعتراف بأخطاء الماضي. الإقلاع عن التبجيل. التجرؤ على الصمت، وتبني موقف الحرية. دولة بلا حريات هي مجرد زرائب، والشعب يُقاد فيها كالقطيع وبالقوة. ثانياً: الديموقراطية ليست نظاماً مثالياً، ولكنها أفضل السيئين. لا بد من تطهير الديموقراطية من مثالب ارتكبت باسمها في السلطات. ثالثاً: احترام المواطن كإنسان. المواطن أولاً، والسلطة أخيراً، لأنها في خدمة المواطن. المواطن ليس خادماً بل مخدوماً، لأنه بمجرد القيام بواجباته وبحرية، يصبح هو الأول. هو المرجع. هو الشعب.. نحن بلاد بلا شعوب. السلطات العربية تريدنا أحذية في مشاريعها القاتلة والمهينة. رابعاً: طرد السياسات المؤسسة على أديان وطوائف وتحزبات رثة. الدين لله. اتركوه هكذا واتبعوه بقناعة وليس “بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”. خامساً: لا بد من بناء دولة حاضنة لقوى الحياة، والمعرفة، والإنتاج، والعطاء، والإبداع والـ.. إلى آخره. بهذا، تصبح البلاد أوطاناً.
نعم لا وطن بدون حرية وعدالة وإلى آخره من الفضائل. إقرأ على موقع 180 لا حلّ خلف أبواب العواصم.. فلنُجرب الصعب أخيراً، سأعود إلى البداية. فلسطين قضية وطنية قومية إنسانية. فما هي الأسئلة الجديدة والضرورية، لصياغة مهمات جديدة قابلة للحياة ولم الجموع وتسلق الانتصار خطوة خطوة؟ أخيراً مرة أخرى. الدماء التي سفكت وتسفك في فلسطين، ليست قضية سياسية. هي قضية ما فوق إنسانية. و”إسرائيل” العظمى، هي دولة استثنائية، صغيرة جداً، وأقوى من عظماء وقيادات وجيوش الأطلسي والصحراء العربية.. راهناً، هناك “إسرائيل”، ولها سلطة تفوق سلطة الدول الخمس الكبرى في الأمم المتحدة. هي تأمر، فتُطاع. أما نحن.. ففعل ماضٍ ناقص.. وعليه أن يكتمل. وعليه، لست يائساً أبداً. غزة علّمتني الإيمان بالمستقبل. وشهداء “الرضوان”، علّموني سخاء الدم. لذلك، أنا اليوم أتنفس. الصبح قادم لا محالة. المجد للشهداء. جاذبية فلسطين.. عباءتي.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram
نسخ الرابط :