قبل اندلاع الأزمة في العام 2019، كانت صرخة أساتذة الجامعة اللبنانية وطلابها، على أوضاعهم المادية وعلى ميزانية الجامعة، في أوجها. فالجامعة منذ ما قبل العام 2019 تعيش أزمة مستفحلة. وامتد إضراب الخمسين يوماً الذي نفذته رابطة الأساتذة حتى شهر آب من العام 2019. وكانت المطالب يومها هي تحسين رواتب الأساتذة وميزانية الجامعة وتفريغ المتعاقدين. علماً أنه حينها كانت ميزانية الجامعة نحو 240 مليون دولار، وكان راتب الأستاذ نحو ثلاثة آلاف دولار (معدل وسطي).
أتت الأزمة وانخفضت ميزانية الجامعة إلى أقل من عشرين مليون دولار، وراتب الأستاذ إلى أقل من مئة دولار. وها هي الجامعة تدخل عامها الرابع في الأزمة التي باتت وجودية، فيما الجامعات الخاصة عادت لتستجمع قواها، بعد دولرة جزء من أقساطها.
أزمة وجودية
تعيش الجامعة أزمة وجودية لم يعد الحديث فيها يقتصر على “رفاهية” انتقاد الحكومة التي لا تدعم جامعة الوطن كلما نفذ الحبر من الآلات الطباعة، أو تأخر تأمين كراسات الامتحانات للطلاب، كما كان يحصل سابقاً.
هي أزمة وجودية فعلية لم يعد الحديث فيها عن عدم قدرة الجامعة على تشغيل المختبرات وتجهيزها أو تشغيل الكمبيوترات وغيرها من “رفاهيات”. بل بات يطال الحاجات اليومية الضرورية التي تبدأ بكلفة انتقال الطلاب إلى كلياتهم مروراً بعدم توفر الكهرباء والتعليم على ضوء الهاتف، وعدم توفر المازوت وتقنينه للحاجات الإدارية الضرورية، وعدم توفر المياه والمراحيض لقضاء “أهل الجامعة” حاجتهم.
بلا صيانة ونظافة
الجامعة بلا صيانة. المعدات التي تتعطل تحال إلى التقاعد بلا بديل عنها. فصيانة المباني الجامعية، للحفاظ عليها لو كأحجار متراصة لا تتداعى على رؤوس القاطنين، معدومة. والمباني السكنية للطلاب في مجمع الحدث مقفلة بعدما باتت شبه خراب. وليس أفضل حالاً منها قاعة المؤتمرات في المجمع عينه، التي تضررت جراء تسرب مياه الشتاء المزمن. ووصل الأمر مؤخراً إلى تفسخ قشرة الباطون وبدأت تتساقط على الرؤوس الحاضرين وأثاث القاعة.
الجامعة اليوم بلا محروقات وبلا مياه وبلا مراحيض وبلا نظافة. والطلاب والأساتذة يتدبرون أمرهم بنظافة صفوفهم، طالما أن العمال المياومين يتقاضون مليوناً و800 ألف ليرة شهرياً، وذلك بعد حصولهم على راتبين إضافيين كمساعدة اجتماعية من دولة. وأتى فصل الشتاء ولا أحد يعرف كيف ستتم تدفئة الصفوف وخصوصاً في البقاع أو النبطية. أي أن الجامعة بلا الحاجات الأساسية التي نقلت التعلّم من تحت الشجرة إلى القاعات والمباني والحداثة.
ابتلاع أتعاب الجامعة
للعام الرابع على الأزمة تركت الجامعة تتدبر نفسها بنفسها. وبات العمداء يتدبرون أمور كلياتهم حسب الانتماء الطائفي والحزبي والمكرمة التي يقدمها هذا الحزب أو ذاك المتمول. حلول لا مركزية، تتكرس تباعاً لتصبح المباني الجامعية حكراً على هذا الطرف أو ذاك، وخاضعاً للحكم الذاتي.
الجامعة في أزمة وجودية استدعت تقليص النفقات وعصرها حتى آخر نقطة. حتى أن الإدارة الحالية وضعت خطة لتسيير العام الحالي بنحو 37 مليون دولار، فيما في السابق كانت الـ240 مليوناً غير كافية! بـ37 مليوناً طلبتها الجامعة من الدول المانحة رأت الإدارة أنها تستطيع انقاذ العام الدراسي، ولم تحصل عليها، فيما شركة طيران الشرق الأوسط ترفض دفع خمسين مليون دولار من أموال الجامعة هي بدل أتعابها عن فحوص كورونا في المطار. ويقول الأساتذة أن “الحوت” ابتلعها ولا يريد إعادتها لأصحابها.
الأساتذة والمدربون
أساتذة أخذوا إجازات السنة السابعة أو إجازات بلا راتب. والمدربون أخذوا إجازات يجددونها كل ثلاثة أشهر. منهم من يعمل من الخارج وخصوصاً في وحدة المعلوماتية، لعدم وجود بديل عنهم.
كثر تركوا الجامعة: أساتذة وموظفون وطلاب ومدربون. ولم يعلن عن أعدادهم، لعدم افتضاح الخراب الحالي. فالشواغر الكثيرة والكبيرة، استدعت دمج المواد وتقليص عدد المواد الاختيارية. وبات الوضع هكذا: مواد بلا أستاذة وأساتذة بلا طلاب أو طلاب بلا أساتذة. أما لسان حال الأساتذة الذين خاب أملهم برابطتهم فهو: لا نستطيع التوقف عن تعليم الطلاب، ولا نستطيع الاستمرار في تعليمهم.
لكن حال الأساتذة أفضل من المدربين، الذين يزيد عددهم عن 1200 موظف. فالمدربون قبضوا المساعدات الاجتماعية التي أقرتها الدولة (راتبان إضافيان في الشهر)، بينما رواتبهم محتجزة منذ سنة. حصلوا مؤخراً على رواتب الشهر الأول والثاني والثالث بما قيمته 120 دولاراً، أو أربعين دولاراً بالشهر. وضعهم المزري، على ما يكشف أحدهم، جعل بعضهم يتمنى لو أنه توظف في الإدارات العامة، حيث يدبر الموظف مصاريفه رشى من معاملات المواطنين.
تقلص عدد الطلاب
رسمياً انتهى الفصل الأول من العام الدراسي في الجامعة ودخل الجميع في عطلة الأعياد. لكن واقعياً لم ينه الطلاب امتحانات الدورة الثانية للعام الدراسي السابق بعد. ومن أنهى من الأساتذة امتحانات الدورة الثانية لم يصدر نتيجتها بعد. بمعنى آخر، بدأت الجامعة العام الدراسي حتى قبل معرفة الطلاب نتائج امتحاناتهم، ما استدعى تمديد مهل تسجيل الطلاب.
وعليه لا يعرف عدد الطلاب الذين سينتسبون إلى جامعة الوطن، التي كانت تفخر بأنها تضم أكثر من ثمانين ألف طالب. والحديث عن تراجع عددهم هذا العام بالآلاف، رغم تقليص الدوامات لثلاثة أيام حضورية بالأسبوع. والسبب أن الطالب الآتي من المناطق إلى بيروت فضل التسجيل في الجامعات الخاصة القريبة من سكنه، لأن كلفة النقل الشهرية باتت توازي قسطاً سنوياً في تلك الجامعات.
في العام الرابع على أزمة الجامعة الوجودية، القول إن الجامعة تركت لتدبر نفسها بنفسها هو تعبير مخفف.. والأصح، أنها جُلدت وضربت ولدغت حتى من جحر أهلها آلاف المرات.
نسخ الرابط :