انتهت قمّة «حلف شمال الأطلسي» (الناتو) المنعقدة في مدريد، مع انتصاف نهار أمس، وغادر رؤساء دول وحكومات الغرب إلى بلدانهم، وفي جُعبهم خطط لمزيد من الإنفاق الحربي والتجنيد والتصعيد، فيما تُواجه اقتصاداتهم أزمات تضخّم وركود لم يشهد مثلَها العالم منذ الحرب العالمية الثانية. وبدت الولايات المتحدة، في خلال إعلان مخرجات القمّة، وكأنها ألقت على نفسها رداء العسكرة، وعزمت على أخذ العالم برمّته نحو الحرب، وذلك بعدما بثّت الروح في جسد «الناتو»، وفرضت تضخيم عديده في شرقيّ أوروبا إلى ضِعف حجم الجيش الروسي، وأعادت توجيه بوصلته نحو عدوّ مباشر آنيّ (روسيا)، وتحدّ استراتيجي (الصين)، إضافة إلى تجديد الالتزام بـ«مكافحة الإرهاب» في العالم العربي والساحل
وافق رؤساء دول وحكومات «حلف شمال الأطلسي»، في قمّتهم الطارئة التي عُقدت في العاصمة الإسبانية مدريد، على صياغة جديدة لفلسفة الحلف، تُحدّد استراتيجياته ومهامه الأساسية للعقد المقبل. وفي تحوُّل كبير عن وثيقة الاستراتيجية السابقة (قمّة لشبونة 2010) التي كانت اعتبرت روسيا شريكاً محتملاً، فإن موجز الوثيقة التي تمّ التوافق عليها في مدريد يقول إن روسيا تظلّ «التهديد الأكثر أهمية ومباشرة لأمن الدول الأعضاء وللسلام والاستقرار»، كما يضع الصين، لأوّل مرّة، في خانة «التحدّي الرئيس لأمن الحلفاء ومصالحهم وقيمهم». واعتَبر المجتمعون أن بيئة الأمن الأوروبي تغيّرت كليّاً نتيجة «العدوان» الروسي على أوكرانيا، و«انتهاك المعايير والمبادئ» التي ساهمت في ضمان استقرار تلك البيئة لعقود، ولم يستبعدوا «احتمال شنّ هجوم روسيّ في أيّ وقت ضدّ سيادة الحلفاء وسلامة أراضيهم»، مستشهدين بجهود موسكو لتحديث قوّتها النووية، ورفضها الامتثال للالتزامات الدولية للحدّ من التسلح، وما وصفوه بمحاولاتها «زعزعة استقرار الدول المجاورة على الجناحَين الشرقي والجنوبي للناتو».
كما تعهّدوا بـ«العمل معاً في التصدّي للتحدّيات المنهجية التي تفرضها الصين على الأمن الأوروبي - الأطلسي جرّاء طموحاتها المعلَنة وسياساتها القمعية التي تهدّد مصالح الغرب، ومحاولاتها الحثيثة للسيطرة على التقنيات والصناعات الرئيسة، مع تجاهل القواعد واللوائح الدولية». ومع ذلك، لم ينصّ الاتفاق على وصف الصين بالعدو، بل أكد أن الحلف لا يزال منفتحاً على إمكانية بناء علاقات بنّاءة معها، ربّما في حالة تخلّيها عن شراكتها الاستراتيجيّة مع روسيا، والتي عدّها المجتمعون «طليعة التصدّي الاستبدادي» لقواعد النظام الدولي. وفي الواقع، فإن الشراكة الصينية - الروسية تبدو أخطر تهديد لهيمنة الغرب منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، وانتهاء الحرب الباردة، إذ نجحت روسيا في عقدَين من حُكم الرئيس فلاديمير بوتين في استعادة حيويتها، فيما تقدّمت الصين بشكل مطّرد لتُنافس الولايات المتحدة اليوم على مكانة أكبر اقتصادات العالم، وهما اليوم تتعاونان في غير مجال، في ما من شأنه التمهيد لنشوء بيئة بديلة لا تخضع لرغبات نُخبة واشنطن، وقادرة على استيعاب شعوب أخرى في الجنوب.
وبالعودة إلى الوثيقة الصادرة عن القمّة، فإن «الإرهاب لا يزال يشكّل تهديداً مستمرّاً غير متكافئ لأمن الدول الأعضاء» (الثلاثين)، فضلاً عن تغيّرات المناخ، والتكنولوجيات الحديثة المخلّة بالاستقرار، وانتشار الأسلحة. كما شدّد المجتمعون على حق الردّ المسلّح على الهجمات الهجينة (السايبرية وعبر الفضاء) التي قد تستهدف دول الحلف، وعلى دور الأخير في الردع والدفاع ومنع الأزمات وإدارتها، كما التعاون الأمني (الاستخباراتي)، والذي يقتضي استدامة عملياته. وتضمّنت الوثيقة عدّة إشارات إلى شمال أفريقيا والشرق الأوسط ومنطقة الساحل، بحجّة أن أيّ «صراع أو عدم استقرار» في هذه المناطق يمكن أن «يؤثّر بشكل مباشر على أمننا»، وهو ما سيثير ارتياح أعضاء «الناتو» في جنوبي أوروبا، ولا سيما إسبانيا وإيطاليا واليونان التي طالما طالبت بدعمها لمواجهة تدفّق اللاجئين من الجنوب. كذلك، أشار الموجز إلى أن المناطق المذكورة تُواجه «تحدّيات أمنية وديموغرافية واقتصادية وسياسية عميقة ومترابطة ومرشّحة للتفاقم»، مضيفاً أن «هذه الديناميكيات توفّر أرضاً خصبة لانتشار الجماعات المسلحة، بما في ذلك المنظّمات الإرهابية، وتشرّع الأبواب لتدخّلات تزعزع الاستقرار من قِبَل المنافسين الاستراتيجيين» - في إشارة إلى الصين وروسيا -.
إلى جانب ذلك، قرّرت القمّة دعوة فنلندا والسويد، رسمياً، للانضمام إلى «الناتو»، علماً أن التحاقهما به سيعزّز تواجده في بيئة بحر البلطيق، ويسهّل «الدفاع» عن لاتفيا وليتوانيا وإستونيا القابعة تحت هاجس «الغزو» الروسي. لكن أهمّ القرارات الصادرة عن المجتمعين في مدريد، كان زيادة تعداد القوّة الضاربة للحلف في أوروبا من 40 ألف جندي حالياً، إلى 300 ألف، وفق مقترح الأمين العام لـ«الناتو»، ينس ستولتنبرغ. على أن هذا القرار يظلّ مجرّد إطار عمل، فيما ستتعيّن على ستولتنبرغ متابعة الحلفاء للحصول على تعهّدات منهم بالمساهمة بقوات إضافية ومعدّات وتمويل. وقالت ألمانيا إنها ستخصّص 15 ألف جندي لهذه الغاية، وتعهّدت كندا برفع تواجدها الأوروبي من نحو 1375 جندياً حالياً إلى مستوى لواء. لكنّ الاندفاعة الأكبر أتت من الرئيس الأميركي، جو بايدن، الذي أعلن أن بلاده ستُعزّز تواجدها في كلّ أوروبا، وستُخصّص أسلحة ومعدّات متطوّرة لدعم حضور «الناتو» بحراً وبرّاً وجوّاً في مواجهة روسيا. وتشمل الخطط الأميركية المعلَنة مقرّاً دائماً في بولندا، و5000 جندي إضافي في رومانيا، وسربَين من طائرات «إف-35» في المملكة المتّحدة، ومعدّات دفاع جوي متقدّم في إيطاليا وألمانيا، ومدمّرتَين بحريتَين في إسبانيا. وتمتلك الولايات المتحدة وجوداً عسكرياً دائماً في 13 بلداً أوروبياً، ويصل تعداد جنودها في مختلف القطاعات عبر القارّة إلى 70 ألفاً الآن، فيما يمكن أن يبلغ بعد القمّة 100 ألف، وفق تقديرات الخبراء.
من جهتها، أعربت إسبانيا عن راحتها لحصولها على ضمانات من «الناتو» لحماية سبتة ومليلة، وهما مدينتان عربيتان تحتلّهما في شمال أفريقيا. ونُقل عن رئيس هيئة الأركان الإسبانية، تيودورو لوبيز كالديرون، قوله إن التزام الحلف بالدفاع عن «السلامة الإقليمية» للدول الأعضاء يشمل أيضاً ممتلكات إسبانيا في القارة الأفريقية. بريطانياً، أعلن بوريس جونسون، رئيس الوزراء، عن دعم مسلّح إضافي بقيمة مليار جنيه إسترليني لأوكرانيا، وهو ما من شأنه أن يرفع مجموع ما قدّمته لندن لكييف منذ شباط الماضي، إلى 2.3 مليار جنيه إسترليني (2.8 مليار دولار أميركي)، الأمر الذي يجعلها أكبر مموّلي النظام الأوكراني بعد الولايات المتحدة. وتعهّد جونسون، الذي يواجه ضغوطاً داخلية شديدة للاستقالة، بزيادة حجم الإنفاق العسكري لبلاده داخل «الناتو»، إلى 2.5% من مجموع الناتج القومي، أي بزيادة 20% عن الحد الأدنى. لكنّ سخاء الرئيس من جيوب البريطانيين لن يكون من دون عواقب محلّية على الأقل، حيث يشتكي وزير الدفاع من عدم توفّر الاعتمادات الكافية للجيش البريطاني، فيما تملأ الصحفَ التي سيقرأها أثناء رحلة العودة إلى لندن تصريحات محبطة من أندرو بيلي، محافظ بنك إنكلترا (المركزي)، الذي قال في مؤتمر في البرتغال إن المملكة المتحدة - من الناحية الاقتصادية - في أسوأ وضع ممكن -، وتعاني من أزمة طاقة أكثر من بقيّة أوروبا، وقد تعيش حالة تضخّم أعلى لفترة أطول.
وحضرت اليابان - مُمثَّلة برئيس وزرائها فوميو كيشيدا - القمّة، وذلك لأوّل مرّة في تاريخ الحلف الذي تأسّس قبل 73 عاماً. وشارك كيشيدا زعماء الحلف مخاوفهم من صعود الصين، وقلقهم على مستقبل تايوان، لكنّ مراقبين أعربوا عن خشيتهم من أن الأميركيين سيعيدون عسكرة اليابان، كما شرعوا بالفعل في عسكرة ألمانيا، مع كلّ ما يحمله هذا من كوابيس فاشيات القرن العشرين. وحضرت القمّةَ أيضاً مجموعة ممّن تسمّيهم واشنطن شركاء «الناتو»، ومن هؤلاء رؤساء دول وحكومات أستراليا، وأوكرانيا (عن بعد)، وجورجيا، وكوريا (الجنوبية)، فضلاً عن رئيس المجلس الأوروبي ورئيس المفوّضية الأوروبية والسويد وفنلندا. وتَمثّل الأردن وموريتانيا من خلال وزيرَي خارجيّتهما، في حين سُجّل حضور وزير الدفاع في البوسنة والهرسك.
نسخ الرابط :