رؤية إنسانية عادلة مدخل إلى منهجية سعادة

رؤية إنسانية عادلة مدخل إلى منهجية سعادة

Whats up

Telegram

والعدل في الأرض يبكي الجن لو سمعوا

                                                 به ويستضحك الأموات لو نظروا

                                                              جبران خليل جبران-المواكب

مقدّمة

تاريخ البشرية مليء بالنزاعات والحروب والمظالم، غير أنه لم يخل من دعوات صادقة لإقامة العدل والسلام والتعاون بين الشعوب.

إن إقامة التشريع لضبط السلوك الإنساني هو دليل على الرغبة في السلام والعدل.

فلسفة زينون الرواقي شكّلت دعوة لإقامة السلام والعدل بين جميع الناس دون أي تمييز.

الرسالة المسيحية والرسالة الإسلامية دعتا للسلام والعدل والتعارف بين الشعوب، ولكن الصراع والقتال والحروب بين مذاهبهما جلبت الكثير من المآسي والويلات.

رغم دعوات السلام كان الظلم ولا يزال طاغياً ومسيطراً في العلاقات بين الدول والشعوب. وتبقى الشعوب الضعيفة معرضة باستمرار للظلم والطغيان من الدول القوية.

مع صعود القوى الأوروبية بعد عصر النهضة والاكتشافات والاختراعات وبداية عصر الاستعمار، زادتجرائم الإنسانية بشكل واسع وكبير، حيث تمت إبادة واستعباد ملايين البشر.

رغم التطور في النظم الاجتماعية والسياسية والقانونية وفي مجال حقوق الإنسان، لا نزال نشهد الأعمال العدوانية والجرائم الكبيرة ترتكبها أفراد وجماعات ودول كبرى.

في القرن الواحد والعشرين تتجلّى العدوانية بشكل كبير في سياسة الولايات المتحدة الأميركية ضد العديد منالدول والمجتمعات في العالم، وتبرّر هذه العدوانية بحجج واهية مثل نشر الديمقراطية ومحاربة الإرهاب.

 انتشرت أفكار سياسية في القرن العشرين، أبرزها الشيوعية-الاشتراكية، الفاشية والنازية، والديمقراطية. تجسّدت هذه الأفكار في دول كبرى، تصادمت فيما بينها لامتلاك الأسواق العالمية، مدّعية أنها تقاتل في سبيل مبادئها. تصادم مصالحها فجّر الحرب العالمية الثانية، التي أودت بحياة مئات الملايين من البشر، معظمهم من أبناء هذه الدول.

قبل انتشار هذه الأفكار السياسية، أدّى التزاحم والتنافس على امتلاك الأسواق التجارية في العالم إلى إشعالالحرب العالمية الأولى التي أودت بحياة الملايين.

بغضِّ النظر عن هذه الأفكار السياسية، فإن عدوانية هذه الدول تجاه الشعوب الضعيفة وتجاه بعضها البعضدفعها ولا يزال يدفعها إلى امتلاك الأسواق والتحكم في الموارد، وليس إلى التعاطي الحر فيما بينها أو تجاه الدولوالمجتمعات المستهدفة بسبب ضعفها.

طرح أنطون سعادة (1904 – 1949) مشروعه لنهضة الأمة السورية، حين كانت أمته خاضعة للاستعمار الإنكليزي-الفرنسي، مُقسّمة ومُجزّأة ومَسلوبة، فاقدة الإرادة، وخاضعة لنظم اجتماعية طائفية-عشائرية-عائلية، تعيش ثقافة القرون الوسطى، يمزّقها التفكك الاجتماعي والتخلّف الاقتصادي والثقافي، وسيطرة النزعة الفردية الطاغية. وتعاني الويلات تلو الويلات.

انتقد سعادة الأفكار السياسية المنتشرة عالميا وتلك السائدة داخل الأمة، معتبراً أنها أدّت وتؤدي إلى الكوارث والهلاك.

داخل الأمة، لم تخرج الأفكار السياسية من دائرة الأفكار الدينية والطائفية والمذهبية والاثنية والعشائرية والعائلية مغلّفة ببعض المصطلحات الحديثة.

يشرح سعادة في رسالته إلى حميد فرنجية، دوافع إنشاء الحزب متسائلا ” ما الذي جلب على شعبي هذاالويل؟” ومبيناً منهج الرد العلمي والعملي عليه.

يقول في هذه الرسالة:

” لم أكن أطلب الإجابة على السؤال المتقدم من أجل المعرفة العلمية فحسب.  فالعلم الذي لا يفيد كالجهالة التي لا تضر.  وإنما كنت أريد الجواب من أجل اكتشاف الوسيلة الفعّالة لإزالة أسباب الويل، وبعد درس أوليّ منظم قررت أنّ فقدان السيادة القومية هو السبب الأول فيما حل بأمتي وما يحل بها.  وهذا كان فاتحة عهد درسي المسألة القوميةومسألة الجماعات عموماً والحقوق الاجتماعية وكيفية نشوئها. (سعادة، المجلد 8، 2001 ، صفحة 31)

أطلق سعادة مشروعه النهضوي، بعد الدرس المنظّم للإنتاج الفكري الإنساني في الفلسفة والاجتماع والأنتروبولوجيا والسياسة والاقتصاد والتاريخ والأديان والأدب والموسيقى، وبنور العقل الناقد المستند إلى الحقائق العلمية المثبتة.

يشرح تأثير الثورة الصناعية على التغييرات الكبيرة اجتماعياً وسياسياً، ويقول: “منذ ظهور الآلة العصريةوحصول الثورة الصناعية أحدثت الاضطرابات والانقلابات الاجتماعية التي تلتها شعوراً بالحاجة إلى نظام اجتماعي ـ سياسي جديد فابتدأت العقول القوية تفكر في حلول للقضايا الاجتماعية التي نشأت وفي أنظمة جديدة للمجتمع.

تولّد، بعامل التطور الاجتماعي على أساس الحرية الفردية، نظام جديد هو نظام الرأسماليين ومزاولي المهن الحرة والعمال، أو نظام الطبقات الرأسمالي الذي حلّ محل النظام القديم الذي كان يقسم المجتمع إلى طبقةنبلاء وطبقة أحرار وطبقة عبيد وهو نظام الطبقات الإقطاعي.”

إنّ نظام الطبقات الرأسمالي لم تكن له نتيجة اجتماعية غير الحفز على نظام حرب الطبقات، والحرب بين الطبقة الرأسمالية والطبقة العاملة ليست حلاً لمشكلة الاجتماع الإنساني الاقتصادية ولا تحقيقاً لمصالحه النفسيةواتجاهاته الروحية.

وكما تكوّنت ضمن المجتمع الواحد الطبقات والنظام الطبقي بعامل الثورة الصناعية، كذلك تكوّنت، بذاك العامل عينه، الطبقات الأممية والنظام الطبقي الأنترناسيوني الذي يضع طبقة من الأمم الاستعمارية ذات الإمبراطوريات والمناطق الواسعة، وطبقة من الأمم المتوسطة وطبقة من الأمم المنحطَّة أو المضغوطة،المحرومة. (سعادة، المجلد 8، 2001 ، صفحة 160)

النظام الطبقي الرأسمالي منذ نشأته لم يكن نظاماً صالحاً. على المستوى الداخلي يحفّز على حرب الطبقات والتوتر والأزمات داخل المجتمع، وعلى المستوى العالمي هو نظام استعماري قام بجرائم إبادة ضد الشعوب الضعيفة ويستمر بنهب واستعباد الشعوب.

انتقد سعادة المحاولة الشيوعية التي قامت على أساس التعاليم المادية، كما انتقد المحاولة الفاشية-النازية التي قامت على أساس التعاليم الروحية. المحاولتان ساهمتا بطرق ودرجات مختلفة في حلول بعض المشاكل الداخلية في مجتمعاتها من خلال التنظيم. ولكن بقي لديها التوجّه الاستعماري ذاته، وكذلك نظام طبقات الأمم بترتيب جديد.

قدّم سعادة مشروعه النهضوي متوجّها به إلى أمته ورسالة إنسانية من خلالها إلى العالم. فاعتبر فلسفات الرأسمالية والماركسية والفاشستية، فلسفات جزئية خصوصية أنانية تحيا بالتخريب. والعالم يحتاج إلى فلسفة جديدة تنقذه من تخبّط وضلال هذه الفلسفات.

“إنّ العالم الذي أدرك الآن، بعد الحرب العالمية الأخيرة، مبلغ الهلاك الذي جلبه عليه قيام الفلسفات الجزئية الخصوصية ـ الفلسفات الأنانية التي تريد أن تحيا بالتخريب ـ فلسفة الرأسمالية الخانقة وفلسفة الماركسيةالجامحة، التي انتهت في الأخير بالاتحاد مع صنوها المادية الرأسمالية بقصد نفس الروح من العالم، وفلسفة الروح الفاشستية وصنوها الاشتراكية القومية المحتكرة الروح، الرامية إلى السيطرة به سيطرة مطلقة على أمم العالم وشؤونها ـ هذا العالم يحتاج اليوم إلى فلسفة جديدة تنقذه من تخبط هذه الفلسفات وضلالها. وهذه الفلسفة الجديدةالتي يحتاج إليها العالم ـ فلسفة التفاعل الموحَّد الجامع لقوى الإنسانية ـ هي الفلسفة التي تقدمها نهضتكم“.  (سعادة، المجلد 8، 2001 ، صفحة 162)

الفلسفات التي ينتقدها سعادة في هذا النص تجسدت في نظم اجتماعية وسياسية وتسببت بحروب مدمّرة ولا تزال تسبب المزيد من المآسي لشعوبها ولشعوب العالم أجمع. ورغم دعواتها الإنسانية في الظاهر فليس لها في الواقع أي علاقة بالإنسانية ولا بالعدالة. وتحركها غرائزها وأطماعها التي لا حدود لها. بعيداً عن التفكير العقلاني والقيم الإنسانية والأخلاقية.

فلسفة سعادة كما أسماها هي: رؤية إنسانية عادلة، نظرة جديدة إلى الحياة والكون والفن، الفلسفة القومية الاجتماعية، المدرحية.

ماذا يميّز دعوة سعادة، عن غيرها؟ ما هي مرتكزاتها العلمية؟ وهل رؤيته هي حقاً رؤية إنسانية عادلة؟

منهجية التفكير العلمي

تميّز سعادة بتفكيره العلمي والعملي، بالتفكير العميق المنطلق من تساؤلات فلسفية عميقة والإجابة عليها بعد درس طويل ومنظم، يتناول كل ما يحيط بمشكلة البحث من مختلف الجوانب. وركّز في تفكيره على التعيين والوضوح وتحديد المصطلحات المستخدمة تحديداً دقيقاً، وتكوين رأي خاص بعد الاطلاع على نتاج المفكرين الذين سبقوه. وتناول في تفكيره المواضيع التي يمكن البرهان عليها بطريقة علمية بالأدلة الملموسة والحجج المنطقية. وتجنّب المواضيع التي لا تخضع للبراهين العلمية. وأكّد على التفكير الحر واعتبار الفكر جوهر الحياة الإنسانية، مقتفياً نهج زينون الرواقي ومضيفاً إليه الأطر العملية، هادفاً إلى تحسين الوجود والارتقاء به، من أجل الحياة في حسنها وخيرها وجمالها. والنقطة الأبرز في تفكيره هي الربط بين الظواهر وإيجاد العلاقة المنطقية بين الأسباب والنتائج.

يظهر التزام سعادة بالمدرسة العلمية ومنهج التفكير العلمي منذ بداية كتاباته مطلع شبابه. مقاله بتاريخ 10-6-1922يظهر فيه التأكيد على الحقائق الراهنة، وانتهاء زمن المعجزات والعجائب والخرافات، ورفض الاتكال الغيبي والخارجي.

“زمن المعجزات والعجائب والخرافات قد مضى وأصبح الناس يسيرون على أنوار الحقائق بعد أن كانوا يسيرون في ظلمات الجهل. والذين لا يبتغون الحقائق خاسرون لا محالة. ونحن لكي نكون من الفائزين في نهضتنا الحديثة، يجب علينا أن نسير بموجب الحقائق الراهنة. أما إذا كنا ننتظر مسيحاً آخراً آتيا من السماء، أو أما حنونا آتيةمن الأرض لتمنحنا ما نريد، فثقوا بأننا سننتظر إلى الأبد.”  (سعادة، المجلد 1، 2001، صفحة 18)

يرتبط تفكير سعادة بالوجود بما يمكن معرفته والتأكد منه علميا،

“لسنا من الذين يصرفون نظرهم عن شؤون الوجود إلى ما وراء الوجود بل من الذين يرمون بطبيعة وجودهم إلى تحقيق وجود سام جميل في هذه الحياة وإلى استمرار هذه الحياة سامية جميلة.”  (سعادة، المجلد 8، 2001 ، صفحة 78)

التأكيد على حرية التفكير

في ردّه على محمد كرد علي يقول: “لم نأسف لهذا التحكم الصادر من رئيس الـمجمع العلمي العربي ولكننا أسفنا للحقيقة التي وقفنا عليها، وكنا نـجهلها من قبل، وهي: أنّ الـمجمع العلمي العربي معقل دولة الفكر التحكمية ضد دولة الفكر الـحر وإنْ كان بيـن أعضائه نفر يدينون بحرّية الفكر وكنا نود أن يحترم السيد محمد كرد علي الـحرية الفكرية ويضعها فوق منطقه وواقعه ولكنه أبى إلا أن يصدمها” (سعادة، المجلد 1، 2001، صفحة 382)

في رسالة إلى غسان تويني حول فخري المعلوف يقول سعادة:

“يطلب استخدام حرية اعتقاده ليفرض على الحزب وجوب “اعتماد الحقائق الدينية الفلسفية التي لا يمكن برهانها بالعقل البشري المجرّد” وهو لا يعني شيئا أقل من وجوب تقييد حرية الفكر بإقرار هذه “الحقائق” النظريةالجدلية المفترضة واعتمادها كحقائق واقعية لا يمكن الجدل فيها. وطلبه اعتماد “الحقائق” التي يذكرها لا يعني شيئا أقل من جلب نزاع النظريات والمذاهب الفلسفية الدينية المسيحية والمحمدية، واللا دينية من علمية داروينية وغيرداروينية وسبنسرية وغيرها الى صفوف الحزب  ”  (سعادة، المجلد 11، 2001 ، صفحة 28)

زينون وسعادة

المقارنة بين زينون الرواقي وزينون القومية أي سعادة كما كتبها في شباط 1940 تظهر ما يلي:

الربط بين فكرزينون الرواقية وفكر زينون القومية

يسمي سعادة نفسه زينون القومية ويربط بين فكره وفكر زينون ويقول: “إنّ من يتأمل فلسفة سعادة في خطبه الممتلئة وفي كتابه “نشوء الأمم” يدرك الرابط العظيم بين فكره وفكر فيلسوف الرواقية، خصوصاً في الناحية الإيجابيةالبانية التي تعبّر فيها الفلسفتان عن نفسية عميقة متأصلة في المجتمع السوري” (سعادة، المجلد 4، 2001 ، صفحة 12)

1- الفكر النقدي:

يعطي سعادة أهمية كبيرة لفلسفة زينون الرواقي التي اعتبرت “أنّ الفكر هو جوهر الطبيعة وميزة الإنسان. لقد أعلن زينون أنّ هنالك ناموساً طبيعياً يتمثل في الشرائع الوضعية والتقاليد بمقدار ما فيها من الخير والصلاح ولكنه يتعداها، وأنّ هذا الناموس الطبيعي يمكن اكتشافه بواسطة الفكر ويمكن الاستفادة منه، متى عُرف، لنقد الأوضاع وإصلاحها.  إنّ هذه النظرة الفلسفية الموجبة قضت على وثنية التقاليد وأحلت محلها حكم الفكر المتحرر.  إنّ جميع الأنظمة البشرية يجب أن تخضع لناموس الطبيعة الذي هو أيضاً تشريع الفكر.”

2- مبدأ الإرادة والواجب:

“إنّ زينون أول من أدخل كلمة الواجب إلى الفكر الإغريقي، على ما يقال، كما أنه أول من دلّ على أهميةالإرادة ومحلها الفلسفي، وهو من هذه الناحية أب لكل الفلسفات التي عززت شأن الإرادة. على هذه الأسس بنى زينون فلسفته الأخلاقية معلناً أنّ على الإنسان أن يعمل واجبه بعد إعمال فكره، وأن يسلّم للعناية ما لا يقع تحت طائل إرادته،وهذا ما عرف في التاريخ بالسلوكية، الرواقية.”

3- ترقية الفكر: هي الهدف الأسمى للإنسان. (سعادة، المجلد 4، 2001 ، صفحة 9)

يصف سعادة فلسفته أنها:

“رؤية إنسانية عادلة منظمة، يسيطر فيها عامل الفكر وتنقشع عن سمائها غياهب الأوهام” ، ويعتبر أن “العودةإلى مبدأ الواقع الاجتماعي في الأمة تخلصاً من فوضى الاعتباطية العقائدية هي في جوهرها أشبه بعودة زينون إلى مبدأ الناموس الطبيعي.”

“أراد سعادة أن يهيئ أمته بواسطة العقيدة القومية الاجتماعية لتتغلب على العصبيات المشتتة لقدرات الأمة،”أراد أن تكون أمته مستعدة للقيام بقسطها في إنشاء حضارة العالم. (سعادة، المجلد 4، 2001 ، صفحة 12)

مثلما شكّلت دعوة زينون العودة إلى الناموس الطبيعي جوهر الفلسفة الرواقية، شكّلت دعوة سعادة العودة إلى الواقع الاجتماعي جوهر فلسفته. إنّ رسالة سعادة كرسالة زينون إنسانية في غايتها، أخلاقية عملية تعطي الأهميةللفعل الإنساني من خلال الواجب والإرادة. إنها رسالة قائمة على نظام الفكر، وعلى التنظيم والحقائق العلمية والاتجاه العملي.

الواقع الاجتماعي

الواقع الإنساني هو واقع أمم ومجتمعات.

يسمي سعادة العصر الذي نعيش فيه أنه عصر تنازع الأمم، عصر تتقيد فيه الأفراد والجماعات بمصير أممها، فإن كانت الأمة ناهضة، راقية، متقدمة في ميدان الحياة كان لأفرادها وجماعاتها مقام وكرامة على نسبة ذلك.

إن أول اعتماد الأمم في الحياة على نفسها، وفي النزاع الهائل القادم سيكون الاعتماد على النفس فصل الخطاب، فالأمم التي اعتمدت على نفسها وتجهّزت بما يدفع عن كيانها بقيت وفازت، والأمم التي علّقت أمالها على المقامرة والمضاربة في الشؤون السياسية، معتمدة على قوات ليست في قبضتها وواضعة ثقتها في تدبيرات خارجية سقطت وتلاشت. (سعادة، المجلد 1، 2001، الصفحات 490-491)

لا تعني الوحدة الإنسانية وحدة حقيقية لجميع الناس وتساوياً تاماً في التمتع بموارد الخير وفي توزيع الموارد الأولية الموجودة في الأرض على جميع الناس بالتساوي، ولا تعني صيرورة الناس أمة واحدة في وحدة الحياة والشعور والنظر إلى الحياة.

لا تعني وحدة الحركة العمالية الطبقية الشيوعية في العالم، أن العمال السوريين ستكون لهم حالة مساواة في الحياة والمعاشرة والمنزلة والنتائج مع العمال الروسيين والفرنسيين والإنكليز وغيرهم، فخصائص الشعوب ونفسياتها لا تزول بمجرد فكرة سياسية أو اقتصادية. ولا تعني العالمية الأميركانية أن الأميركان مستعدون لمقاسمة جميع الشعوب الفقيرة خيرات بلادهم. (سعادة، المجلد 8، 2001 ، الصفحات 324-325)

إن مسألة القومية ليست مسألة محمديين ومسيحيين بل مسألة واقع اجتماعي له حكم واحد.

الأمم لا تنشأ بالأهواء والرغبات الاستبدادية، بل بالنواميس الاجتماعية.

والدول لا تقوم على الهوس الديني بالشؤون المختصة بما وراء المادة، بل على القواعد السياسية – الاقتصادية. (سعادة، المجلد 5، 2001 ، صفحة 252)

دراسة وفهم الواقع الاجتماعي

إن فهمنا للواقع الاجتماعي كوحدة حياة يساعدنا على فهم فلسفة سعادة، الفلسفة القومية الاجتماعية.

مبادئ الحزب الأساسية قامت على أساس فلسفي لأنها تجيب على أسئلة رئيسية وعامة.

“هل نحن أمة حية؟

هل نحن مجتمع له هدف في الحياة؟

هل نحن قوم لهم مثل عليا؟

هل نحن أمة لها إرادة واحدة؟

هل نحن جماعة تعرف أهمية الأعمال النظامية؟

هذه الأسئلة بسيطة وواضحة جداً ولكنها أسئلة خطيرة وأهميتها واضحة للمدقق البصير المتبصر في القيم الإنسانية وفي طرق التفكير الفلسفي وأهدافه.”  (سعادة، المجلد 8، 2001 ، صفحة 34)

في رسالته إلى عميد الإذاعة، فايز صايغ، يقول سعادة: ” الـحركة نشأت على عقيدة أي فلسفة اجتماعية كاملة موجودة في الـمبادئ وفي كتابات الـمعلم وشروحه في كتبه وخطبه ومحاضراته وأحاديثه وفي قدوته.” (سعادة، المجلد 7، 2001، صفحة 280)

لا يمكن إلغاء التصادم والنزاعات بين الجماعات ضمن الواقع الاجتماعي إلا بالنظر إليه باعتباره كما هو في الحقيقة وحدة حياة، ووحدة المصالح الأساسية الكبرى، المصالح الحقيقية التي تهم الجميع.

لا يمكن تحقيق السلام الداخلي للمجتمع إلا في النظر إلى الواقع الاجتماعي أساسا للهوية الجامعة لكل المواطنين.

ولا يمكن إقامة سلام بين الأمم إلا باحترام الواقع الاجتماعي وبناء العلاقات بين الأمم على التفاعل الإيجابي البناء.

يقول سعادة: إنّ وحدة الأمة والوطن تجعلنا نتجه نحو فهم الواقع الاجتماعي الذي هو الأمة بدلاً من الضل الوراء أشكال المنطق الصرف وتراكيب الكلام.

“إنّ الترابط بين الأمة والوطن هو المبدأ الوحيد الذي تتم به وحدة الحياة. ولذلك لا يمكن تصور متّحد إنساني اجتماعي من غير بيئة تتم فيها وحدة الحياة والاشتراك في مقوماتها ومصالحها وأهدافها، وتمكن من نشوء الشخصيةالاجتماعية التي هي شخصية المتحد ـ شخصية الأمة”.

كل فكرة قومية بلا أساس من وطن يخرج الأمة عن وضع واقعها الاجتماعي، فالتأويلات السلالية هي تأويلات مخالفة لواقع المجتمع.  (سعادة، المجلد 8، 2001 ، صفحة 43)

الأمّة واقع اجتماعيّ بحت. (سعادة، المجلد 3، 2001 ، صفحة 119)

متّحد المدينة والمنطقة واقع اجتماعيّ وكذلك متّحد القطر.

إنّ الاشتراك في الحياة يوّلد اشتراكاً في العقليّة والصّفات كالعادات والتّقاليد واللّهجات والأزياء وما شاكل. وعدم الاشتراك في الحياة يوهي أشدّ الرّوابط متانةً كالرّابطة الدّمويّة.  (سعادة، المجلد 3، 2001 ، صفحة 122)

من خلال فهمه للواقع الاجتماعي نظر إلى سورية الطبيعية باعتبارها وحدة حياة، تشتمل على كل مقومات حياةالأمة والارتقاء بها.  فهي وحدة جغرافية ـ زراعية ـ اقتصادية ـ استراتيجية، لا يمكن قيام قضيتها القومية الاجتماعيةبدون اكتمالها”.(سعادة، المجلد 8، 2001 ، صفحة 66)

إننا أمة ليس لأننا نتحدر من أصل واحد، بل لأننا نشترك في حياة واحدة في وطن واحد يحتم علينا أن نكون إخواناً قومييـن متحدين في هذه الـجامعة الوطنية، التي قلَّ مثيلها، من أجل كرامتنا نحن وحقوقنا نحن ومصالـحنا نحن ووطننا نحن. (المجلد الأول ص 403 )

“في الوحدة الاجتماعية تضمحل العصبيات المتنافرة والعلاقات السلبية وتنشأ العصبية القومية الصحيحة، التي تتكفل بإنهاض الأمة.

النظر إلى الواقع الاجتماعي كوحدة حياة يفترض وحدة اجتماعية ووحدة نفسية حتى تستمر هذه الحياة وترتقي إلى ما هو أفضل.

“إنّ التساوي في الحقوق والتوحيد القضائي هما أمران ضروريان لنفسية صحيحة موحدة.  فبدون هذا التساوي تظل العقليات المختلفة التي كوّنتها الشرائع المختلفة معضلة تمنع الأمة من الاضطلاع بقضاياها. فالمجتمعات المتعددةالمستقلة بشرائعها وأنظمتها الحقوقية تجزئ الأمة وتمنعها من التقدم.”  (سعادة، المجلد 8، 2001 ، صفحة 73)

تحديد سعادة للواقع الاجتماعي أي الأمة مشروح بوضوح في كتاب نشوء الأمم خاصة في الفصل السابع وفي مبادئ الحزب الأساسية في المحاضرات العشر، وفي العديد من الخطب والمقالات والرسائل.

في المحاضرة التي ألقاها في حفلة “العروة الوثقى” في الجامعة الأميركية، سنة 1933 يوضح سعادة معنى الأمة المستمد من تركيبها المادي وحياتها الروحية وصفتها التي هي نتيجة تفاعل مادية الأمة وروحيتها.

“الأمة أساس مادي يقوم عليه بناء روحي. فكل أمة يجب أن تكون مؤلفة من مادة بشرية هي الأجسام المتسلسلة من بعض العناصر، ومادة طبيعية هي المحيط بجغرافيته وجوّه وحدوده وكنوزه الطبيعية.  وعلى هاتين المادتين الأساسيتين يقوم بناء الأمة الروحي الذي يميّزها عن غيرها من الأمم..

أما البناء الروحي فهو، على أنه غير منفصل عن الأساس المادي، نتيجة تفاعل عقول أبناء الأمة الواحدةوتمكنهم من إظهار رابطة عقلية تربطهم في الشرائع والقوانين والتقاليد الاجتماعية واللغة والأدب والتربية.  ” (سعادة، المجلد 1، 2001، صفحة 452)

الأمة أي الواقع الاجتماعي هي وحدة العوامل المادية-الروحية. التفاعل بين هذه العوامل يختلف حسب مراحل التطور الاجتماعي وحسب المستوى الثقافي للأمة.

في المراحل الأولى للتطور الاجتماعي كان التأثير الأقوى هو للعوامل المادية، ومع تطور الفكر الإنساني أصبح للعوامل النفسية أو الروحية التأثير الأكبر.

في مقال الصحافة السورية 1933 يقول سعادة: “كانت القوة في الأصل مادية بحتة ثم أخذت تتطور بدخول الفكر البشري وارتقائه حتى أصبحت معنوية أيضاً، وأصبح الفكر أعظم أهمية من المادة، فكثر اعتماد الأمم الحيةعلى الفكر الذي هو قوة غير محدودة”. (سعادة، المجلد 1، 2001، صفحة 412)

المدرحية تصف حقيقة الواقع الاجتماعي، واقع الحياة، ولكن تبقى الحاجة ماسّة لفهم هذا الواقع والعلاقات الناتجة عنه.

توجد عوامل روحية بناءة وتوجد عوامل روحية هدّامة.

الروحية الهدّامة

إنّ أعظم بلية حلَّت بالأمة السورية، نتيجة لعصور التقهقر والانحطاط بعامل فقد السيادة القومية، هي بليَّة الأمراض النفسية والانحطاط الـمناقبي، وقيام الـمصالح الـخصوصية والغايات الفردية مقام مصلحة الأمة والغايات القومية، وتـحجّر الـمجتمع السـوري في قوالب الـحـزبيـات الدينيـة الـمختلفة، فتفشّت في الـمتحد الاجتماعي الـمثالب الأخلاقية، وحلّت محل الـمناقب، فطغت نفسية الرياء والغش والتزييف والنفاق، يساعدها على الانتشار الـجهل والفقر والذل التي تعرّض لها الشعب في سقوطه من سيادته وعزِّه.

تلك الـمثالب هي التي تزيّف اليوم حقيقة نفسية الأمة الأصلية وحقيقة قضيتها وغايتها العظمى، حتى أننا لم نكن نرى، قبل نشوء الـحركة القومية الاجتماعية، إلاّ متزلِّفين إلى الدول الأجنبية يطلبون الـمصلحة الـخصوصية بخدمة غاياتها ومطامعها في وطننا، وإلاّ عاملين في الشؤون السياسية لـمصالح الدول الاستعمارية الكبرى، وإلاّ العامليـن لـخـدع الشعب بقضايـا مصطنعة يشير الأجنبي بإنشائها وصرف مجهود الشباب التوّاق إلى الـحرية والـخير في أقنيتها الـمهيأة على قواعد الأمراض النفسية والفوضى الاجتماعية السياسية.  (سعادة، المجلد 8، 2001 ، صفحة 372)

الفردية

الفردية غير الـمسؤولة هي من أسوأ أمراض الـمجتمع النفسية ومن أكبر قضاياه الاجتماعية والسياسية. فإذا تـحكَّمت هذه الفردية الهدّامة في مصير شعب وسخّرته لأغراضها الشخصية ومقرراتها التحكمية قادته إلى الـخراب والذل. وسيطرة الأفراد الـخطرة على الأمـم هي تلك السيطرة التي يصل إليها الأفراد عن طريق وثبة الـمطامع الشخصية في سانحة الـمشاكل السياسية – تلك السيطرة التي تعني للفرد غايته العظمى، فهي ليست واسطة لقضية جماعية أسّسها وبناها الفرد، بل غاية تتخذ القضية الـجماعية واسطة لها. إنها ليست سيطرة قضية الأمة بواسطة الفرد الذي يحمل قضية الأمة، بل سيطرة قضية الشخص الذي يحمّل الأمة كلها أعباء قضيته الـخصوصية!

هذه هي الدكتـاتـوريـة البغيضـة التي تتخذ شعباً بكليته مطية لإرادتها الفردية الـمطلقة. إنها أقبح أنواع الاستعباد، لأنها استعباد من الداخل. وإذا لم تصل هذه الدكتاتورية إلى السلطة التنفيذية فهي تـمارس طغيانها الـمخرب بالتهديـم من تـحت.  (سعادة، المجلد 8، 2001 ، صفحة 351)

     النزعة الفردية تجعل الفرد وميوله غاية كل فكرة ونهاية كل عمل. وهي العدو الأول لكل غاية مجتمعيةوالعقبة الكأداء التي تعترض نشوء النظام الاجتماعي العام. فطبيعتها مخالفة لطبيعة الاجتماع، لأنها ترمي إلى جعل السيادة في الفرد نفسه وليس في المجتمع ونظامه. ولما كان الأفراد غير موجودين إلاّ في الجماعة، كانت النزعةالفردية، التي تعدّ الفرد كل شيء في العالم، أكبر عامل تفكك وهدم لكيان الجماعة، الذي هو الكيان الإنساني الحقيقي منذ ظهر الإنسان على مسرح الطبيعة. (سعادة، المجلد 6، 2001 ، صفحة 185)

يدعونا سعادة إلى ضرورة فهم الواقع الاجتماعي ودرسه باستمرار.  وينبّه إلى أن النواميس أي القوانين الاجتماعية مستنتجة من الحياة فالأساس الذي يجب العودة إليه هو الواقع الطبيعي أي الحياة.

” النّاموس اصطلاح بشريّ لمجرى من مجاري الحياة أو الطّبيعة نقصد به تعيين استمرار حدوث فعل أوخاصّة من أفعال وخواصّ الحياة أو الطّبيعة، لا أن الطبيعة أو الحياة وضعت لكائناتها هذه النّواميس وأمرتها بالسّيرعليها.  وفي كلّ النّواميس الّتي نكتشفها يجب ألا ننسى أنّنا نستخرج النّواميس من الحياة فيجب ألا نجعلها تتضارب مع المجرى الطّبيعيّ الّذي نعرفه بها. فكوننا اكتشفنا ناموساً أو ناموسين من نواميس الحياة العامّة يجب ألا يحملنا على نسيان الواقع الطّبيعيّ ونواميسه الأخرى. ” (سعادة، المجلد 3، 2001 ، الصفحات 119-120)

“كلّ جماعة ترتقي إلى مرتبة الوجدان القوميّ، الشّعور بشخصيّة الجماعة، لا بدّ لإفرادها، من فهم الواقع الاجتماعيّ وظروفه وطبيعة العلاقات النّاتجة عنه. وهي هذه العلاقات الّتي تعيّن مقدار حيويّة الجماعة ومؤهّلاته اللبقاء والارتقاء، فبقاؤها غامضةً يوجد صعوبات كثيرةً تؤدّي إلى إساءة الفهم وتقوية عوامل التّصادم في المجتمع فيعرقل بعضه بعضاً ويضيّع جزءاً غير يسير من فاعليّة وحدته الحيويّة ويضعف فيه التّنّبه لمصالحه وما يحيط بهامن أخطار من الخارج.
وإنّ درساً من هذا النّوع يوضح الواقع الاجتماعيّ الإنسانيّ في أطواره وظروفه وطبيعته ضروريّ لكلّ مجتمع يريدأن يحيا. ففي الدّرس تفهّم صحيح لحقائق الحياة الاجتماعيّة ومجاريها. ولا تخلو أمّة من الدّروس الاجتماعيّة العلميّةإلا وتقع في فوضى العقائد وبلبلة الأفكار”.  (سعادة، المجلد 3، 2001 ، صفحة 5)

يذكر سعادة في مقدمة نشوء الأمم أن ظاهرة الوجدان القومي هي أعظم ظاهرة في عصرنا وهي تتطلب من الفرد “أن يضيف إلى شعوره بشخصيته شعوره بشخصية جماعته، أمته، وأن يزيد على إحساسه بحاجاته إحساسه بحاجات مجتمعه، وأن يجمع إلى فهمه نفسه فهمه نفسية متّحده الاجتماعي، وأن يربط مصالحه بمصالح قومه، وأن يشعر مع ابن مجتمعه ويهتم به ويود خيره، كما يود الخير لنفسه.” (سعادة، المجلد 3، 2001 ، صفحة 5)

لا يمكن الوصول إلى مرتبة الوجدان القومي مع بقاء سيطرة العصبيات الدينية والمذهبية والاتنية والقبلية وغيرها من العصبيات المحلية، وفي ظل طغيان النزعة الفردية. يجب أن يكون العمل الأساسي هو إيضاح فكرة الأمة المرتبطة بالواقع الاجتماعي.

“بعد تأسيس فكرة الأمة يجب الاهتمام بالأمة التي أصبح لها تـحديد واضح لم يعد متراوحاً، أصبح من الضروري الاهتمام بـمصير الأمة، بتأمين مصيرها، بتأمين حياتها ووسائل تقدم الـحياة نحو الـمثل العليا، نحو إقامة نظام جديد للحياة يجعل الـحياة أرقى وأفضل وأجمل. فالـحيـاة وجمـالها وخيرها وحسنها هو الغاية الأخيرة. وليست الغاية العمل – كما كان يظن في حالات كثيرة من مثل التي نشأت ولم تتعمق – في مسائل الـحياة الاجتماعية وقضاياها. ” (سعادة، المجلد 8، 2001 ، صفحة 131)

“إن من أهم مسائل النهوض القومي بعد تأسيس فكرة الأمة وبعد تعيين الـمقاصد الكبرى، هي مسألة الأخلاق. هي مسألة العقلية الأخلاقية. هي مسألة الروحية الـحقة التي يـمكن أن تفعل في الـجماعة، في الـمجتمع.

كل نظام يحتاج إلى الأخلاق. بل إنّ الأخلاق هي في صميم كل نظام يـمكن أن يكتب له أن يبقى.”  (سعادة، المجلد 8، 2001 ، الصفحات 134-135)

لو قضـوا على مئـات منـا لـما تـمكّنوا من القضاء على الـحقيقة التي تخلد بها نفوسنا ولـما تـمكّنوا من القضاء على بقية منا تقيم الـحق وتسحق الباطل، فيكون انتصارنا أكيداً في حياتنا وبعد موتنا لذلك نحن جماعة لا نخاف ولا نأبه للموت.

نحن جماعة تقول إنّ العيش لا قيمة له. إنّ القيمة هي في الـمبادئ التي تـمثّل نفوس الـجماعة. إنّ القيمة هي في الـمبادئ الأخلاقية والـمطامح السامية التي تفيض بها النفوس لا في الشؤون الـمادية من العيش ولا بأية قيمة من الـحياة الـمادية. لذلك نحن جماعة لم تفضل، لا أنا شخصياً، ولا واحداً من هذه الأمة الناشئة كلها، يوماً أن تترك عقيدتها وإيـمانها وأخلاقها لتنقذ جسداً بالياً لا قيمة له.  (سعادة، المجلد 8، 2001 ، صفحة 438)

الوصول إلى الوجدان القومي يتطلب الوعي القومي، العامل الروحي الذي يوحد القلوب والأفكار، موجهاً القوى القومية في إرادة واحدة وعمل منظم واحد نحو غايات الأمة العظيمة. كل محاولة بدون هذا النسيج، بدون هذه الوحدة الروحية الفكرية في الإرادة والعزيـمة الـمرتكزة إلى شيء حقيقي واقعي، إلى مجتمع واحد في حياة واحدة ومصير واحد، بدون هذا الأساس لا يـمكن النهوض ومواجهة الأفكار بأمل الانتصار.  (سعادة، المجلد 8، 2001 ، صفحة 450)

الوعي القومي الذي يوضح حقيقة الـمجتمع وينقذه من تخبطاته هو شرط أولي للابتداء بالعمل الأولي للتقدم والفلاح، لذلك نحن نفضّل أن نبدأ بهذه الطريقة بوعي قومي اجتماعي صحيح يقضي على جميع الـمشاكل الروحية والنفسية في الـمجتمع لإيجاد مجتمع واحد له أهداف واحدة. (سعادة، المجلد 8، 2001 ، الصفحات 422-423)

يشكّل الواقع الاجتماعي دائرة التفاعل لتحقيق المصالح المادية والنفسية لجميع مكوّناته. العلاقة ضمنه هي علاقة تفاعل، أما العلاقة مع خارجه فهي علاقة اتصال بين مجتمعات تحددها الدول المسؤولة عنها.

القيم هي محدّدات السلوك ومرجعها يحدّد الاتجاه.

عندما يكون مرجع القيم ضمن الواقع الاجتماعي، الفرد أو الجماعة الدينية أو الجماعة العرقية أو غيرها من الجماعات سيؤدي ذلك إلى التوتّر والتصادم والحروب الداخلية بين الأفراد والجماعات. ويؤدي إلى خضوع المجتمع للقوى الخارجية وقد ينتهي بالتفكك والزوال.

      مفهوم الانسان المجتمع الذي دعا إليه سعادة يعني أن المجتمع، الواقع الاجتماعي، هو مصدر القيم وهو غايتها وليس الفرد، ولكن لا يعني إلغاء الشخصية الفردية، وإنما يعني رفض النزعة الفردية وأي نزعة فئوية ضمن المجتمع.

    القيم بنظر سعادة إنسانية نفسية، قيم اجتماعية، أي إنّ أساس القيم، من حقيقة وخير وجمال وحق، ومقياسهاهو الإنسان.

موضوع فلسفته، هو الإنسان والقيم الإنسانية، لا منشأ الكون.

 “إنّ عقيدتنا تقول بحقيقة إنسانية، كلية، أساسية هي الحقيقة الاجتماعية: الجماعة، المجتمع، المتحد… المجتمع هو الوجود الإنساني الكامل والحقيقة الإنسانية الكلية”. ويقول أيضاً: “إنّ عقيدتنا اجتماعية، تنظر إلى الإنسان من زاوية الحقيقة الإنسانية الكبرى ـ حقيقة المجتمع، لا من زاوية الفرد.

إنّ نظرة سعادة ترفع موضوع الإنسان من سفسطة الجزئيات إلى فلسفة الكليات. إنها فهم جديد، شامل، لحقيقةالإنسان ومعرفة الإنسان والقيم الإنسانية. (سعادة، المجلد 8، 2001 ، صفحة 171)

يجب النظر إلى الواقع الاجتماعي كوحدة حياة واعتبار المجتمع هيئة اجتماعية واحدة، وهذا يتطلب أن يكون النظام السياسي للمجتمع مبنياً على العدل الاجتماعي والعدل الاقتصادي والعدل الحقوقي. ومحاربة النزعة الفردية والنزعات العنصرية والطبقية ضمن المجتمع الواحد.

قضية العمال

قضية العمال هي في أساس الواقع الاجتماعي، وقد اعتبر سعادة أن نظامه الاقتصادي القائم على الإنتاج والتحكم بموارد الأمة، يلغي الفارق الاجتماعي التقليدي، ويجعل الجميع منتجين مشتركين يقوم اشتراكهم في الإنتاج على الإنصاف وتأدية الحق.  والعمال هم أفراد من مجتمعهم الذي يحيون فيه ويقاسمون أبناء مجتمعهم مزايا البيئةومواهب الشعب، ويحملون معهم البلايا والمصائب الحالّة، يحدث لهم ما يحدث لأبناء قومهم من تذوق طمع الأجنبي وتُستهدف مصالحهم الاجتماعية الفرعية للأخطار عينها التي تُستهدف لها المصالح القومية الأساسية، فهم وابناء قومهم متحدون في مصير واحد هو مصير الأمة. (سعادة، المجلد 2، 2001 ، صفحة 252)

ويقول إن قضية العالم الاقتصادية ليست قضية عمال وصناعيين رأسماليين، بل قضية إيجاد النظام السياسي الاقتصادي العالمي الذي يؤمن طريقة استثمار الثروة الطبيعية الكامنة في المعادن والمواد الأولية، ويوزع على الناس العمل المنتج والثروة المنتجة من غير أن يكون لمجتمع حق في ادعاء أنّ الثروة الطبيعية الكامنة في بيئته الطبيعيةتخصه أكثر مما تخص جميع البشر الداخلين في هذا النظام. ولكن إيجاد هذا النظام يشكل قضية سياسية شديدة التعقدلكثرة المصالح المتضاربة الداخلة فيها. وبدون الوصول إلى هذا الحل العام تبقى المسألة الاقتصادية الكبرى مسألةالأمم والقوميات لا مسألة العمال والطبقات.  (سعادة، المجلد 2، 2001 ، صفحة 256)

في مقال العقيدة السورية القومية الاجتماعية وبحث الديموقراطيين عن عقيدة (الزوبعة، بيونس آيرس، العدد46، 15/6/1942) ، يعرض سعادة تصريحات بعض المسؤولين البريطانيين خلال الحرب العالمية الثانية الذين دعوا إلى تحويل السياسة الديموقراطية إلى ديموقراطية اقتصادية. وآخر ما قاله السر ستافورد كرفس في خطاب ألقاه في التاسع والعشرين من مايو/أيار الماضي، هو: إنّ الاعتقاد القديم، أنه يكفي الفقير ما يصل إليه، مهما يكن نوعه وتكن كميته، قد مضى، تاركاً محله للاقتناع بأن لكل عضو من أعضاء الدولة الحق في “ستندرد” أو مستوى معيشةلائقة، معيّن يشمل الصحة والنظافة ووسائل الراحة. وقد حان وقت إيجاد المجتمع المنظم.

يقول سعادة بهذا الخصوص: “الديموقراطية، التي خبرتها الشعوب المتمدنة، حتى اليوم، لم تتمكن من حلّ الأضاليل الاجتماعية ــــ الاقتصادية التي نشأت مع تقدم عهد الآلة، وارتقاء التخصص في الأعمال وتحديدها. فقبل هذه الحرب العالمية، كانت أوروبا وأميركا ما عدا ألمانية وإيطالية، تعيش في ظل الديموقراطية. ولكن شعوبها كنت متعبة، رازحة.” (سعادة، المجلد 6، 2001 ، صفحة 91)

 الشعوب كانت متخمة من الديموقراطية الرأسمالية، التي أصبحت كابوس العامل والفلاح. إنّ المحافظين الإقطاعيين، والرأسماليين، في بريطانية، والرأسماليين في الولايات المتحدة، لا يعجبهم تبديل الديموقراطية في أشكالها المعروفة، التي سهّلت لهم الوصول إلى ثرواتهم الفاحشة من أسهل الطرق. ولذلك، لا نعجب من أنّ الحركة الفكرية الجديدة في بريطانية، لم يمكن أن تنشأ قبل دخول بعض كبار العمال والاشتراكيين في الحكم. (سعادة، المجلد 6، 2001 ، صفحة 93)

ويتابع سعادة في المقال ذاته ويقول: “ما يبحث عنه سياسيو بريطانية والولايات المتحدة، اليوم، من أجل رفع المعنويات للحرب، أو من أجل الوصول إلى حالة ترضى بها بعض أحزابها، قد وضع الحزب السوري القومي قواعده منذ بدء نشأته.  والحزب السوري القومي الاجتماعي، هو الوحيد، من بين جميع الأحزاب السياسية ــــ الاجتماعية ــــالاقتصادية، التي نشأت في العقود الأخيرة في أوروبا وأميركا، الذي أوجد عقيدته الاجتماعية منذ أول تأسيسه، فامتازبذلك على الحزب الفاشستي الإيطالي، الذي نشأ عصابات ثوروية، لا عقيدة لها في البدء وعلى الحزب الاشتراكي القومي الألماني، (النازي)

وفضلاً عن تعيين الأمة وتحديد، القومية وإيجاد عقيدة وحدة الأمة، قد نظر الزعيم في مستقبل الأمة وما يجب أن تصل إليه من الارتقاء والبحبوحة والعدل الاجتماعي ــــ الاقتصادي، فوضع لهذه الغاية المبدأ الإصلاحي الرابع من مبادئ الحزب السوري القومي، الذي يتضمن العقيدة الاجتماعية للسوريين القوميين الاجتماعيين، وهو: “إلغاءالإقطاع وتنظيم الاقتصاد القومي على أساس الإنتاج وإنصاف العمل وصيانة مصلحة الأمة والدولة”

يبدي سعادة تقديره للنظريات الاجتماعية الاقتصادية، من كارل ماركس وأنغلز إلى الاجتماعيين الاقتصاديين الجدد، ويقول إنها ألقت نوراً قوياً على مشاكل المجتمع الإنساني الاقتصادية. ولكن الاشتراكية، لم تتمكن من حل القضايا الإنسانية الاجتماعية المعقدة.  (سعادة، المجلد 6، 2001 ، صفحة 98)

إضافة إلى افتقار الديمقراطية إلى عقيدة اجتماعية، فهي قد أفرغت من مضمونها، واستغنت بالشكل عن الأساس، فتحولت إلى نوع من الفوضى لدرجة أنّ الشعب ذاته يئن من شلل الأشكال التي أخذت على نفسها “تمثيل”الإرادة العامة، وصار ينتظر انقلاباً جديداً. وهذا الانقلاب الجديد هو ما تجيء به الفلسفة السورية القومية القائلةبالعودة إلى الأساس والتعويل على “التعبير عن الإرادة العامة” بدلاً من “تمثيل الإرادة العامة” الذي هو شكل ظاهري جامد.

فالتفكير السوري القومي الجديد هو إيجاد طريقة جديدة اسمها “التعبير عن إرادة الشعب” وقد يكون هذا التعبيربواسطة الفرد أو بواسطة الجماعة حسبما يتفق أن يوجد.

فهذه الفكرة الجديدة، أي “التعبير عن إرادة الشعب” هي الاكتشاف السوري الجديد الذي ستمشي البشريةبموجبه فيما بعد. وهو دستورنا في سورية الذي نعمل به لنجعل البلاد دائماً كما تريد الأمة.

إنّ الأمم كلها تريد الخير والفلاح.  ولكن المشكل هو في إيجاد التعبير الصالح عن هذه الإرادة. فالإرادة العامةإذا لم تجد “التعبير” الصحيح في فكرة واضحة وقيادة صالحة تصبح عرضة لأن تقع فريسة للمطامع والمآرب”التمثيلية”

هذا هو الخلل الاجتماعي الذي يريد التفكير السوري الحديث أن يصلحه، تفهُّم إرادة الشعب وإعطاؤها وسائل التنفيذ الموافقة.

ولا يزال البشر إلى الآن يجاهدون في إيصال هذه الفكرة “حقوق الإنسان” إلى حد الكمال.

فالسوري المفكر يجب أن يهتم في إنقاذ الديموقراطية من الهلاك.  وذلك بأن يزيل ما دخل إليها من الفسادويدخل إليها تفكيراً ينطبق على ما وصل إليه الناس من العلم والمعرفة، فتصير صالحة لنفع الإنسان وتكفل حقوق الإنسان من كل مهاجمة وتعدٍّ.  (سعادة، المجلد 4، 2001 ، صفحة 38و41)

يبيّن سعادة في نداء أول أيار 1949التشابه بين الإقطاعية الشيوعية السياسية الإنترناسيونية والاستعماريةالرأسمالية الاقتصادية الإنترناسيونية في الأهداف والنتائج:

الاثنتان ترميان إلى الاحتفاظ بتفوقهما وسيطرتهما الإنترناسيونيين تجاه الأمم الأقل عدداً وقوة وموارد والاثنتان تقتطعان أو تستعمران الأمم التي ليس لها من القوة الذاتية ما يمكنها من حفظ استقلالها في شؤونها وأهدافها. الإقطاعيةالشيوعية تنادي بالإنترناسيونية وتهديم القومية والوطنية، والاستعمارية الرأسمالية تنادي أيضاً بالإنترناسيونية والسلام العالمي الدائم والدولة العالمية، وهدف الاثنتين السيطرة المطلقة النهائية على شؤون العالم ومنع الأمم المؤهلة للنهوض والارتقاء وبلوغ القوة الفاعلة من إدراك غايتها ومنازعتها السيطرة على موارد تلك الأمم وعلى مواد العالم الأولية.

ويذكر أن صراعنا هو صراع مزدوج. إنه صراع ضد الإقطاعي والرأسمالي المتواطئين المتحالفين مع الإقطاع والرأسمال الإنترناسيونيين، وضد الإقطاعية الشيوعية السياسية والاستعمارية الرأسمالية الاقتصادية اللتي نتحرم اننا حق التقدم الاقتصادي بمحاولتهما تسخير مجهودنا لأغراضهما.

إنّ الحركة القومية الاجتماعية تعمل وتحارب لتأمين الأرض السورية ووحدة مواردها، وإعطاء حق العمل وحق النصيب منه. (سعادة، المجلد 8، 2001 ، الصفحات 354-359)

حركة الشعب

إنها الـحركة التي تـمكّن الأمة من الوقوف في وجه البلوتوقراطية – الرأسمال الأجنبي الذي لا يستعبد فئة واحدة من فئات الشعب، بل يستعبد الأمة كلها ويسيطر على مواردهـا بواسطـة ما يلقيـه إليه حلفائـه من فيض خيره فيتلقفونه تلقف الذليل معفِّرين الـجباه ومنزلين أمتهم في مهاوي الفقر والذل والعار!

إننا حركة الشعب ومصالح الشعب. إننا نثق بالشعب الذي احتقره السياسيون وتلاعب بـمقدراته الإقطاعيون وخانه الـمثقفون في ثقافة الاستعمار والرجعة. فنحن من الشعب ونعمل في الشعب لأجل الشعب. إننا نحتقر الاستناد إلى النفوذ الأجنبي الذي يعتمده دهاقنة السياسة الرجعيون الإقطاعيون ليسخّروا الشعب للقضايا الغريبة ولا نعتز إلا بالشعب.  (سعادة، المجلد 8، 2001 ، الصفحات 331-332)

التعدي والسلام

يجب التمييز بين الإجرام الفردي والإجرام الجماعي.  الإجرام الفردي، قد يطول أقرب الناس ولكن مهما بلغت حدته وكانت دوافعه، يبقى تأثيره محدوداً.

الحروب الكبرى في التاريخ قامت على التعدي لتحقيق مطامعها وأطماعها في حقوق الآخرين، مثيرة عصبيات دينية وطائفية ومذهبية، وعصبيات عرقية وقبلية وعشائرية وعائلية. وقوميات شوفينية مملوءة بالحقد والتعصب ضد الآخرين وخاصة الشعوب المستضعفة.

النزاع والتصادم بين الجماعات داخل المجتمع يؤدي إلى ضرب مصالح الجميع وتسهيل مهمة الأعداءالخارجيين في السيطرة عليه.

الصراع بين الدول خاصة مع التقدم الهائل في الأسلحة المدمرة يهدد الحياة الإنسانية بكاملها.

شكّلت عقيدتي الدين والسلالة المحرّك الأكبر لارتكاب الحروب والمجازر، بين الدول وبين الجماعات في الدولة الواحدة، يضاف اليها العامل الاقتصادي وحب السيطرة والتسلط المدفوعة بغريزة الأنانية الفردية والعصبيةالقبلية.

يسهل تعبئة الناس وزجّها في الحروب وارتكاب المجازر من خلال عقيدة الدين ومشتقاتها الطائفية والمذهبية،خصوصا عندما ينظر أصحابها إليها أنها حقائق مطلقة خارجها الباطل والكفر. كذلك الأمر في عقيدة السلالةومشتقاتها القبلية والعشائرية والعائلية، عندما تنطلق من ادعاء التفوق على الآخرين واستباحتهم.

العقائد الدينية لا يمكن مناقشتها لأنها لا تخضع للبراهين العلمية، والتمسك بالتفوق المزعوم سلاليا أو قبليا أوعائليا هو جهل علمي وفلسفي، لأن كل المجتمعات في العالم هي من سلالات وأقوام مختلطة، والطبيعة البشرية واحدةوالاختلافات هي في معظمها ثقافية واجتماعية يمكن تجاوزها بتغيير الظروف.

لذلك فإن القتال بسبب الخلاف في العقيدة الدينية أو العقيدة السلالية، يدل على مستوى متقدم من الجهل والتخلف والابتعاد الكلي عن الحقائق العلمية.

التزاحم الاقتصادي

التزاحم الاقتصادي للتحكّم بالأسواق والسيطرة عليها وتملّكها، أدّى إلى مزيد من الحروب ذهب ضحيتها الملايين وتسببت بكوارث مدمّرة. ولا يزال يهدّد الدول والمجتمعات بكوارث وحروب تقضي على الحياة برمتها.

كتب سعادة مقالا سنة 1924 بعنوان: السياسة الأوروبية – مسائل دقيقة جديدة، يحذّر فيه من خطر وقوع حرب جديدة بسبب التزاحم لامتلاك الأسواق التجارية.

“إنّ التزاحم الاقتصادي كان العامل الأكبر في ذلك السلم المسلح الذي أرهق أوروبة زهاء نصف قرن، وانتهى بنكبة سنة 1914فهل يشهد العالم في السنين المقبلة تزاحماً اقتصادياً آخر يكون من ورائه سلم مسلح ينتهي بحرب أخرى لا تنكب أوروبة بأقل مما نكبتها به الحرب السابقة؟

خطر التزاحم الاقتصادي خطر عظيم، ودول أوروبة آخذه الآن في التأهب له، وكل واحدة منها تسير في الوجهة التي تراها أوفق لها.  وسوف لا يمضي وقت طويل إلا ونرى التنازع على أسواق العالم قائماً على قدم وساق،مما يعيد إلى الأذهان صورة الحالة الحرجة التي كانت فيها أوروبة قبل سنة 1914.

يسمي بعض ساسة أوروبة التزاحم على امتلاك أسواق العالم التجارية “مباراة” وفي هذه التسمية خطأ فاضح،لأن التزاحم المشار إليه هو في الغالب ممزوج بحب السيادة والسيطرة الذي يقود بعض الأمم إلى تضحية أمة أو أمم أخرى في سبيل ذلك.  

يمكن للدول الأوروبية كلها أن تتبارى في الشؤون الاقتصادية دون أن تلجأ إلى “امتلاك” الأسواق التجارية في العالم بطرق غير اقتصادية.  ويمكِّن هذه الدول أن تنقذ أوروبة مما هي فيه بأن تضحي قليلاً من تلك المطامح والمطامع التي هي سبب كل شر يحدث، وهي لا تكون قد خسرت بذلك شيئاً بل تكون قد تخلصت من الأخطار التي تهددها.” (سعادة، المجلد 1، 2001، الصفحات 119-120)

الدول الاستعمارية الكبرى تتحكّم في السياسة الدولية وتفرض إرادتها على الشعوب، تستغلّها وتتحكّم في مصيرها. ولا يزال منطق القوة هو السائد في العالم، وهيئة الأمم مثل سابقتها عصبة الأمم تتحكم في قراراتها الدول التي انتصرت في الحرب.

ويرى سعادة “أن العالم لا يزال بعيداً جداً عن زمن حل مشاكل جميع الأمم بإنشاء تشريع إنترناسيوني عادل يعترف لكل شعب بحق الحياة واتخاذ تدابير لحماية هذا الحق.  فلا مندوحة للأمة التي تريد أن تحيا وأن تتقدم عن الأخذ بمبدأ أساسي هو مبدأ حق الدفاع عن الحياة ومواردها.“

إنّ مبدأ حياة الأمم هو أن تنظر كل أمة في مصالح حياتها بالنسبة لمصالح حياة الأمم الأخرى ولمطالبها العليا. وكل أمة لا تنظر في وحدة مصالحها وتسمح لهذه المصالح بالتفكك والانقسام بعضها على بعض في تحزبات طبقية لاتعاونية، أمة يأكل بعضها بعضاً بينما الأمم الأخرى تنتظر ضعفها لتلتهمها جملة”. (سعادة، المجلد 3، 2001 ، الصفحات 222-223)

السلام

لن تفيد دعوات السلام ولا جمعيات السلام ولا مؤتمرات السلام في وقف النزاعات والحروب، طالما يوجد جماعات وشعوب لم تسترد حقوقها المهضومة والمسلوبة. وطالما تستمر التربية العنصرية في حشو الأذهان بالحقد والكره.

يرى سعادة أن العقبة الكبيرة التي تعترض السلام العالمي والمساواة البشرية تكمن في التاريخ المملوء بالنزعات القومية والعنصرية والإقليمية. ويقول بهذا الصدد:

“أنّ تجريد التاريخ من النزعات والفلسفات المملوء بها يغني عن ألف ألف مؤتمر لتحديد السلاح وألف ألف معاهدة لمنع الحرب.

يحملني على الذهاب هذا المذهب استقصاءاتي العديدة، وبحثي في أساليب إعداد التاريخ للمدارس، وطرق تدريسه، وفي التواريخ الموضوعة للرأي العام. فقد توصلت إلى نتيجة مؤلمة لكل المتمثلين الإنسانية السعيدةوالمتفائلين بمستقبل سلام العالم، جعلتني أعتقد أنّ نصف ويلات البشرية، على الأقل، يعود إلى سيطرة النزعات على التواريخ الموضوعة بين أيدي الناس، وحشو هذه التواريخ بالفلسفات المتغرضة والشروح الموضوعة عمداً لمقاصد معينة.

وإني أعتقد يقيناً أنّ سلام العالم يتوقف على تنزيه معارفنا في ما يتعلق بأنفسنا وجيراننا والبعيدين عنا أكثر كثيراً مما يتوقف على المؤتمرات والمعاهدات السياسية. ” (سعادة، المجلد 1، 2001، الصفحات 245-249)

يتناول سعادة المؤسسات والحركات العالمية التي تريد في الظاهر السلام. مثل: الشيوعية الروسية والعالميةالأميركانية ومنظمة الأمم المتحدة ومؤسستها الثقافية (الأونسكو) والمؤتمر الثقافي العالمي والجمعيات الدينيةبأشكال عديدة ـ

ويقول:” جميع هذه المؤسسات تريد، في الظاهر، وحدة إنسانية وسلاماً عالمياً دائماً.

لا تعني الوحدة الإنسانية وحدة حقيقية لجميع الناس وتساوياً تامّاً في التمتع بموارد الخير وفي توزيعالموارد الأولية الموجودة في الأرض على جميع الناس بالتساوي، ولا تعني صيرورة الناس أمة واحدة في وحدةالحياة والشعور والنظر إلى الحياة.

لا تعني وحدة الحركة العمالية الطبقية الشيوعية في العالم، أنّ العمال السوريين ستكون لهم حالة مساواة فيالحياة والمعاشرة والمنزلة والنتائج مع العمال الروسيين والفرنسيين والإنكليز وغيرهم، فخصائص الشعوبونفسياتها لا تزول بمجرّد فكرة سياسية أو اقتصادية.

ولا تعني العالمية الأميركانية أنّ الأميركان مستعدون لمقاسمة جميع الشعوب الفقيرة خيرات بلادهم.!

إنّ النهضة القومية الاجتماعية لا ترفض السلام العالمي الدائم بعد أن تكون حققت انتصاراتها العظمى التيتجعل للأمة السورية مرتبة ممتازة في السلام وفي حقوق السلام. أما السلام العالمي بعد تجريد الأمة السورية منحقوقها القومية في كيليكية والإسكندرونة وفلسطين وسيناء وقبرص وبعد تجريدها من مواردها الطبيعية، فماذايعني لها غير الذل والفقر والفناء؟

إننا لا نريد الاعتداء على أحد، ولكننا نأبى أن نكون طعاماً لأمم أخرى. إننا نريد حقوقنا كاملة، ونريدمساواتنا مع المصارعين، لنشترك في إقامة السلام الذي نرضى به. (سعادة، المجلد 8، 2001 ، صفحة 324)

“إنّ السلام الحقيقي الثابت في العالم، لا يمكن أن يتم على أساس الحجج التي يستعملها هذا الفريق الاستعماريأو ذاك الفريق الاستعماري. السلام الحقيقي الثابت لا يتم إلا على أساس اعتراف كل من الفريقين المتحاربين لشعوبالعالم الحرة بحق الحياة كشعوب حرة وليس كشعوب مستعبدة، سواء أكانت العبودية من قبل الألمان والطليان أم منقبل الإنكليز والأميركان. ويدخل في ذلك عدم الاستعباد الاقتصادي.” (سعادة، المجلد 4، 2001 ، صفحة 148)

الفلسفة القومية الاجتماعية، الفلسفة المدرحية هي فلسفة الواقع الاجتماعي فلسفة المجتمع والاعتراف به بحقيقة وجوده المدرحي. وحقه في الحياة وتقرير مصيره بنفسه. وتدعو للتعاون والتفاعل بين المجتمعات بكامل الحرية. وهذا هو حق لكل مجتمع طبيعي.

وترفض الفلسفات الأنانية والجزئية المادية والروحية التي تجتزئ الواقع الاجتماعي من جهة وتتجاوزه إلى المجتمعات التي تستطيع السيطرة عليها سواء باحتكار الروح (العوامل النفسية وعلى رأسها الوعي القومي، مثل الفاشية والنازية) أو باحتكار المادة مثل الماركسية والرأسمالية، مادية العمال ومادية الرأسماليين. هذه الفلسفات لم تتعامل مع واقعها الاجتماعي بنظرة كلية باعتباره وحدة حياة مدرحية موحدة العوامل المادية النفسية. وتجاوزت واقعها الاجتماعي لتعتدي على المجتمعات الأخرى، متسببة بالكوارث والحروب. ولا تزال أخطار هذه الفلسفات قائمة ومهدّدة للوجود الإنساني.

 

الدكتور يوسف كفروني

مفكّر وأستاذ جامعي

تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

Whats up

Telegram