عندما قرّر مجلس الوزراء الترخيص لشركة «ستارلينك» ببيع الإنترنت في السوق المحلية، لم يناقش المسألة بشكل مدروس من الجوانب كلها، بل اقتصر الأمر على بضعة أسئلة وردود في جلسة الترخيص نفسها، مع سيطرة للهاجس الأمني عليها. ولم يخطر في بال أحد أن إيرادات وزارة الاتصالات من تأجير خطوط الـE1 أو السعات الدولية ستكون عرضة لمخاطر سوقية كبيرة، ولا سيما إذا قرّرت ستارلينك أن تخفّض أسعارها.
يقول الرئيس السابق لهيئة «أوجيرو» عماد كريدية، في حديث إلى «الأخبار»، إن آخر الأرقام المتوافرة قبل مغادرة منصبه، تُفيد بوجود ما بين 150 و160 ألف «E1» مؤجّر على امتداد لبنان. وتستخدم هذه السعات الدولية من قبل مشتركي أوجيرو - وزارة الاتصالات، إضافة إلى مشتركي القطاع الخاص، وشركتي الخلوي أيضاً. عملياً، كل الإنترنت المبيعة في لبنان تمرّ عبر هذه الخطوط الدولية.
وأي منافسة في هذا المجال ستكون على حساب إيرادات الخزينة من تأجير السعات الدولية، ولا سيما أن الترخيص لستارلينك يعفيها من استئجار هذه السعات الدولية لأنها تبيع الإنترنت عبر أقمارها الصناعية مباشرة إلى المستهلك.
برأي كريدية، إن «الخطر الحقيقي يكمن في ما إذا خفضت ستارلينك لأسعارها وتوسعت خدماتها للأفراد، إذ إنّ الفكرة، حتى اللحظة، مقدمة بحسب نص الترخيص على أنّها مجرد حلّ احتياطي (Backup) محدود، حينها ستصبح الخسائر أمر واقع لا مهرب منه». ووفقاً لتقديرات سوقية، فإن الخسائر المتأتية من التراجع الممكن في تأجير الخطوط الدولية بنتيجة توسّع «ستارلينك» في السوق المحلية، يمكن أن تبلغ 18 مليون دولار بسهولة في السنة الخامسة على الترخيص. ويرى كريدية أنّ هذه التقديرات واقعية جداً، خصوصاً أنّ السوق اللبنانية محدودة الحجم أساساً، وأي تسريب إلى المشغّل البديل ينعكس مباشرة على الإيرادات.
في السياق نفسه، يلفت النائب في لجنة الاتصالات ياسين ياسين إلى أنّ الصيغة المعتمدة في الترخيص لشركة «ستارلينك»، تنقل جزءاً معتبراً من القيمة المضافة خارج المنظومة الوطنية وتُضعف التحصيل الفعلي؛ إذ إن «غياب البوابة/ الفوترة المحلية، يخلق فجوات في التدقيق والجباية، ويقود إلى تآكلٍ تدريجي لإيرادات الرسوم والضرائب المتولّدة تاريخياً من الشبكات الأرضية المرخّصة».
يضيف إلى ذلك «خطر نزوح الشرائح العالية الهامش (الشركات المتوسطة والكبيرة والجهات الكثيفة الاستهلاك) من السوق الرسمية إلى مزوّدٍ خارجي من دون آلية تسوية وتتبع دقيقة»، فضلاً عن أن كلفة السعات الدولية عبر الكوابل البحرية تبقى قائمة على الدولة والمرفق الوطني، ما يؤدي إلى ارتفاع في الكلفة على الشبكات الأرضية وإلى تقليص في حصيلة الخزينة.
فمن الواضح أن بعض المؤسسات الكبرى، وخصوصاً تلك التي تحتاج إلى خدمة مستقرة وسريعة من دون انقطاع، قد تجد في «ستارلينك» حلاً مناسباً رغم كلفته العالية. وهذا يعني أنّ جزءاً من السوق المؤسسي – الذي يُعد الأعلى ربحية – قد ينتقل إلى الفضاء، تاركاً الشركات المحلية أمام خسارة زبائنها الأكثر جدوى.
الخطر الحقيقي يكمن في تخفيض ستارلينك لأسعارها وتوسعة خدماتها لتشمل الأفراد
ليس سهلاً التعمّق في هذا الأمر مع امتناع الإدارة الحالية في هيئة أوجيرو، وفي الهيئة الناظمة للاتصالات وبعض الشركات الخاصة العاملة في السوق، عن أي تعليق مباشر أو غير مباشر. فالردود الآتية من هناك كانت مقتضبة أو متحفّظة أو غائبة كلياً.
صمت يعكس حساسية الملف وارتباطه المباشر بمصالح مالية وتنظيمية كبرى، ويزيد الحاجة إلى شفافية أكبر في شرح الأرقام والسياسات للرأي العام. فالأثر المالي لا يُصيب أوجيرو والخزينة اللبنانية فقط، بل يمتد إلى شركات توزيع الإنترنت في لبنان، التي تستأجر بدورها الخطوط الدولية من الخزينة وتستعملها في توسيع قاعدة المشتركين لدى القطاع الخاص.
فهذه الشركات التي تحصل على الخطوط الدولية بأسعار متدنية جداً، تواجه منافسة شرسة من السوق غير الشرعية، وبالتالي فإن وصول «ستارلينك» إلى المنافسة المحلية بتكنولوجيا الأقمار الصناعية سيزيد الضغط عليها. «الدولة لم تضع أي خطة لحماية هذه الشركات، ولم توازن بين إدخال التكنولوجيا الحديثة وضمان المنافسة العادلة» يقول ياسين. ويرى أنّ نتيجة الترخيص لن تكون «انخفاضاً ظرفياً»، بل «نزفاً تراكمياً يضرب هيكل الإيرادات ويُضعف قدرة «أوجيرو» والـISPs على تمويل الشبكات الأرضية والحفاظ على أسعارٍ عادلة وجودةٍ مستقرة».
وبالنسبة إلى كريدية فإن «المشكلة لا تكمن في دخول هذه التقنية الجديدة التي يفترض أن تكون موجودة في لبنان مثل باقي الخدمات الأخرى، ولكن المشكلة الحقيقية تكمن في الآلية. فالحل يكمن في إطلاق مشاريع جدية مثل توسيع شبكة الألياف الضوئية، وتفعيل تقنيات النفاذ اللاسلكي الثابت (Fixed Wireless Access)... فعندما تكون الشبكة الوطنية متينة وحديثة، تصبح كلفة التشغيل أقل بكثير من كلفة «ستارلينك»، ما يضمن تنافسية السوق المحلية ويحافظ على إيرادات الدولة».
هكذا يعتقد ياسين أنّ أفضل حماية اليوم هي إلغاء القرار بصيغته الحالية وإعادة صياغة سياسة إدخال الإنترنت الفضائي ضمن إستراتيجية مستدامة بمشاركة مقدّمي خدمات الإنترنت المحليين.
إزاء هذا الواقع، فهل المطلوب أن يكون لدى لبنان شبكة اتصالات وطنية، أم المطلوب تقويض السيادة الوطنية على الاتصالات؟ فما بدا عند الترخيص لشركة ستارلينك، «قفزة نحو المستقبل»، قد يكون في الحقيقة خطوة إضافية نحو إفراغ لبنان من موارده الإستراتيجية.
تدمير بدلاً من التصحيح
تعتمد مداخيل الاتصالات بشكل ملحوظ على عائدات رسوم وتأجير الخطوط الدولية للشركات والمؤسسات. وعبر هذه الخطوط يحصل المشتركون على الإنترنت. وقد بلغ عدد المشتركين المصرّح عنهم لهيئة أوجيرو، نحو 300 ألف مشترك من الأفراد والشركات، إضافة إلى نحو 170 ألف مشترك لدى شركات القطاع الخاص المرخّصة. وللمفارقة هناك نحو 600 ألف مشترك يحصلون على الإنترنت بطرق غير شرعية عبر موزعين يسدّدون بدلات الخطوط الدولية لهيئة أوجيرو - وزارة الاتصالات، لكنهم لا يصرّحون عن مشتركيهم. وبدلاً من تصحيح الخلل في هذه التركيبة، ودفع السوق غير الشرعية نحو القوننة والتشريع، تعمل الدولة على تدمير كامل التركيبة عبر الترخيص لشركة ستارلينك باستجرار إنترنت من الخارج لحسابها وبيعه عبر تقنية الأقمار الصناعية في السوق المحلية.
| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) .اضغط هنا
نسخ الرابط :