كجسد يتحلّل تدريجاً، يستمرّ لبنان في الغرق من دون القدرة على وقف هذا الانحدار إلى الجحيم. فبعد التخلّف المالي في آذار، وفشل التفاوض مع صندوق النقد الدولي، والشلل الاقتصادي بسبب جائحة كورونا، والإنفجار شبه النووي في بيروت، يطلّ علينا شبح وقف الدعم في خضمّ عجز سياسي عن أي مبادرة ورؤية للخروج من المأزق. لا بل أسوأ من ذلك، يغلب توجّه عام لاستمرار سياسة الدعم من دون أي تغيير مما يدلّ على "سكيزوفرينيا" حقيقية تتحكّم بالسلطة التي تطالب مصرف لبنان باستكمال سياسة استنزاف العملة الصعبة فيما تلومه عليها كسبب رئيسي للإنهيار المالي الحالي.
فهل يمكن هذه السياسة التي ساهمت في قسم كبير من الفجوة المالية في مصرف لبنان أن تحقّق أي شيء غير اهدار الوقت حتى استنفاد آخر دولار منه؟ وما العمل عند حصول ذلك في زمن ليس ببعيد؟
المطلوب اليوم هو نقلة نوعية في مقاربة موضوع الدعم واستعمال الإحتياط والخروج من منطق تشجيع الإستهلاك نحو منطق تشجيع الإستثمار. فالإستهلاك نتيجته مزيد من الاستيراد والعجز في الميزان التجاري وميزان المدفوعات، بينما الإستثمار ينتج مزيداً من التصدير واستقطاب الأموال وينعكس إيجاباً على العجز، ناهيك بأثره الكبير في النمو الاقتصادي وتأمين فرص العمل.
وبدل استعمال الـ١٧ مليار دولار الأخيرة من مدخّرات اللبنانيين على شاكلة ما سبقها من مليارات فتنتهي بعد بضعة أشهر دخان محروقات في الهواء، يجب أن تُقْدِمَ السلطة على خيارات غير تقليدية تحاكي الحاجات الاقتصادية والمالية على حدّ سواء، فيكون لها أثر مستدام على معالجة الإشكالية المالية المزمنة والمتراكمة.
فلماذا لا يخصّص مليار دولار من هذا الإحتياط مثلاً لتمويل إنشاء معامل كهرباء، عبر الافساح في المجال أيضاً للمودعين للإستثمار إختيارياً في هذا المشروع؟ فهذا إضافة الى أنه لا يزيد الخسائر المالية للدولة أو دَينها، هو أيضاً يخفّض التزامات مصرف لبنان للمصارف وللمودعين الذين يختارون حينها الإستثمار بدلاً من انتظار استعادة ودائعهم في يومٍ من الأيام ما زال غير معلوم حتى الساعة؟ ألا يحلّ ذلك مشكلة عدم توافر تمويل حالياً لتلك المعامل ويخفّض لاحقاً فور إنشائها فاتورة استيراد المازوت التي تستهلك القسم الاكبر من الإحتياط؟
ولماذا لا يخصّص مليار دولار آخر من الإحتياط لبناء معامل جديدة لأكثر السلع استيراداً أو أكثرها قابلية للتصدير (كالدواء مثلاً) فتساهم بشكل مستدام في خفض العجز التجاري ومعه عجز المدفوعات؟ وكما لمعامل الكهرباء، يخصّص هذا المبلغ للمودعين الذين يختارون طوعاً استعمال ودائعهم للإستثمار في الإقتصاد اللبناني بدلاً من خيار الإنتظار من دون أفق واضح للحصول عليها.
ولماذا لا يخصَّص ٥٠٠ مليون دولار ايضاً لدعم سعر بطاقات السفر وأسعار غرف الفنادق لكي يقدّم لبنان للسيّاح الأجانب والعرب عروضاً سياحيةً مغريةً جداً تستقطبهم فيستفيد من الدولارات التي يأتون بها ويصرفونها في اقتصاده؟
أليس استعمال الـ ٢،٥ مليار دولار أعلاه على سبيل المثال لا الحصر، أجدى وأفعل وذا مردود مالي واقتصادي أكبر للبلد من الإستمرار بسياسة الإستنزاف عبر دعم الإستهلاك فقط؟
نحن بحاجة تحديداً الى هذه المقاربات الخلّاقة للخروج من المستنقع الذي نغرق فيه بوتيرة متسارعة يوماً بعد يوم.
ولكن أين الخطة المالية التي قدّمتها الحكومة من كل ذلك؟ أين الرؤية الاقتصادية والمبادرات بدل الدوران في الحلقة المفرغة؟
ما يحتاج اليه لبنان هو هذا النوع من الحلول المستدامة المثلّثة البُعد التي تفيد الاقتصاد بزيادة النمو وفرص العمل، وتفيد الوضع المالي عبر خفض العجز التجاري وعجز المدفوعات، وتفيد المودعين بتقديمها فرصةً إختيارية لاستثمار أموالهم بدل انتظارها أو فقدانها.
أليس هذا سبيلاً إضافياً، الى جانب فكرة الصندوق السيادي وكذلك فكرة حوافز إضافية لمن يأتي بـ"أموال جديدة" من الخارج كجزء من هذه الإستثمارات، لإعادة تكوين هذا الاحتياط، واستطراداً ودائع الناس عبر تخصيص ما تبقّى منه لوسائل تعود على لبنان بالعملة الصعبة التي هو بأمسّ الحاجة اليها لذلك؟
لقد حان الوقت لإخراج الدعم من دوامة تمويل اقتصاد إستهلاكي وترشيده عبر حصره فقط في الضروريات وفي الفئات الأكثر حاجة من اللبنانيين بدل تعميمه على الأغنياء والاجانب والتهريب الى سوريا، ولكن يبقى الأهمّ أنه حان الوقت أيضاً لتغيير وجهة استعمال الاحتياط وفتح أبواب استثماره بنيوياً في المالية والاقتصاد بدل تركه رهينة استهلاك يقوده حتماً الى الهلاك.
النهار - آلان عون
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :