مع انتخاب مجلس نواب جديد ومحاولة تشكيل حكومة جديدة قبل انتهاء الولاية الرئاسية، لا بد من وضع منهجية جديدة للعمل في كل الميادين. تشير تجاربنا منذ عقود الى صعوبة النجاح الكامل حتى في أبسط المهمات. تدل تجاربنا على أننا نجحنا في أمور قليلة وفشلنا في أكثرية المهمات بدأ من البنية التحتية الى أبرز ركائز البنية الفوقية مما أساء الى صورة لبنان دوليا. لذا من الأفضل لنا أن نعتمد النسبية كمبدأ عام مما يعني أن نهدف الى تحقيق نسبة منطقية من النجاح في المهمات ولا نحاول النجاح الكامل كي نكون واقعيين مع أنفسنا ومع قدراتنا.
من المهمات التي فشلنا فيها لعقود هي خدمة الكهرباء التي كلفتنا الكثير ولم تعطنا النتائج حتى بالمستوى الأدنى للمعايير الدولية. كذلك فشلنا في تأمين ايصال المياه الى المنازل وها هي خدمة الاتصالات تتعثر، وهنالك خوف دائم من أن تنقطع الانترنت عن منازلنا ومكاتبنا وبالتالي نعود الى القرون الوسطى. أوضاع الطرقات سيئة والحفاظ على سلامة سياراتنا صعبة خاصة في هذه الظروف التي تمنع على الاكثرية الساحقة من اللبنانيين تصليح سياراتهم كي لا نقول استبدالها. مطار بيروت بحاجة الى تحديث وتطوير وأصبحنا نوعيا في أدنى السلم من ناحية الخدمات والضيافة والخطوط الدولية المتوافرة. في الانتخابات النيابية الأخيرة اعتمدنا نوعا من النسبية في النظام، لكننا نعرف جميعا أنها ليست نسبية فضلى ونموذجية بل أفضل من النظام الأكثري السابق. أعطت الانتخابات تغييرا ايجابيا واضحا وان يكن غير كاف، ونأمل أن تستطيع التكتلات العمل بهدؤ وانتاجية ضمن التنافسية الصحية لبلد متنوع.
اذا مع الحكومة القادمة وكي نكون واقعيين لا بد وأن تكون طموحاتنا محدودة، أي نحاول النجاح نسبيا في مهام نختارها لأهميتها وللحاجة الماسة اليها. لن تكتمل قدراتنا قبل أن نبدأ من جديد مع رئيس الجمهورية الجديد أي عمليا في بداية السنة المقبلة مع رئيس وحكومة جديدين يحاولان انتاج الأفضل للبنان. مهمة انجاز التأليف الحكومي والانتخاب الرئاسي ليسا سهلان تبعا للتجارب السابقة حيث أهدرنا الأوقات الثمينة دون احتساب تقديري للخسائر المادية والمعنوية. واليوم الوقت أهم من الماضي لأن العالم منشغل جدا بأمور كبيرة صحية وسياسية، منها الحرب الروسية على أوكرانيا والتحدي المتزايد بين الولايات المتحدة وروسيا والذي يمكن أن يؤدي الى صراعات خطرة. يجب أن نعي أن للعالم اهتمامات كبرى أخرى مثلا في سيريلانكا والصومال وهي تؤثر جدا على الأوضاع الأسيوية والأفريقية وبالتالي العالمية.
ما هو البرنامج المنطقي الذي نتمنى أن تعتمده الحكومة الجديدة؟ في الايطار العام، لا بد من متابعة المفاوضات مع صندوق النقد والبحث جديا في الاصلاحات المالية والمصرفية قبل أي شيء آخر. تصغير وتفعيل القطاع العام أساسي وبالتالي تخفيف العجز المالي يتبع تقوية المؤسسات العامة وعلى رأسها القضاء لمحاربة الفساد وتأمين احترام القوانين من قبل الجميع هي في غاية الأهمية. تصحيح الوضع المصرفي مهم جدا وخاصة توزيع الخسائر على القطاع العام والمصرف المركزي والمصارف دون المس بأي وديعة لأن لا ذنب للمودعين بما جرى. التعاون مع صندوق النقد يفتح الباب أمام علاقات مالية جديدة من قروض وهبات مع الدول والمؤسسات العربية والخارجية. نحتاج الى دخول الأموال ليرتفع عرض الدولار وينخفض سعره في الداخل ونعود الى سوق نقدية طبيعية. الصيف واعد لكننا نريد أيضا الاستثمارات. المهمة متشعبة وستغطي مجالات عدة كما يلي:
أولاً: الإصلاحات الدستورية أي عمليا تعديل بعض المهل الأساسية أو ايجاد مهل جديدة لتسريع الانتخاب الرئاسي والتأليف الحكومي وللموافقة على المراسيم. تعديل بعض الصلاحيات لا يجب أن يعني دائما أخذ مهمات من مذاهب ووضعها مع أخرى، وفي حال بقي ذلك فلما لا تتم المداورة المدروسة في أهم المراكز السياسية والادارية. ماذا ينفع أي مذهب اذا بقيت الصلاحيات وانهار البلد وتعثر الوضع المعيشي أكثر.
ثانياً: في المجال الاقتصادي، لا يمكن الحفاظ على النظام الحر دون محاربة الفساد واحترام المنافسة وضرب الاحتكارات بل دون حماية الحدود من التهريب الشرعي وغير الشرعي. من الاجراءات التي يمكن أن تضرب النظام الاقتصادي هي المس بالودائع بحيث لا يدخل بعده أي رأس مال الى لبنان لعقود طويلة مستقبلية. لا يمكن ترك قطاعاتنا تعاني وفي مقدمها الصناعة والزراعة خاصة في هذه الظروف التي تتعثر معها التجارة الدولية بسبب الحرب في أوكرانيا وخطورة النقل بين القارات. القطاعان الزراعي والصناعي يحتاجان الى ارشاد تقني وتمويل. يجب أقله توفير الارشاد مع وجود المختصين الكفوئين في الجامعات بانتظار توافر الأمول الكافية مستقبلا. من الضروري أيضا تشجيع الشركات الصغيرة والمتوسطة SMEs كي تزدهر في بلد صغير له طاقات بشرية كبيرة. لا بد من تشجيع الشركات الناشئة Startupsالتي تنجح عالميا حيث هنالك تقدير كبير للطاقات اللبنانية.
ثالثا: في المجال الاجتماعي، مهم جدا الاهتمام بالفقراء لأنهم يعانون ماديا وصحيا. طبعا الشعب اللبناني بأسره يعاني لكن بدرجات مختلفة ولا بد من النظر بعناية أكبر الى الفقراء. من الضروري مع الوقت تخفيف عدد الرخص الجامعية وعدم اعطاء أي رخصة جديدة لأي جامعة وحتى لأي كلية في جامعة احتراما للمستويات التي نريد الحفاظ عليها بعد ان تدنت في العقود الماضية. ليس المهم فقط المستوى التعليمي وانما أيضا البحث والتطوير اللذان يشكلان ركيزة أي مجتمع حديث ومتطور. هنالك أيضا مواضيع البيئة والنفايات حيث ما زلنا متأخرين في المعالجة بسبب تضارب الصلاحيات وغياب الوعي الرسمي العملي لأهمية الموضوع.
رابعا: في البنية التحتية لا يمكن أن يستمر البلد مع أوضاع كهربائية ومائية وطرق وغيرها بأوضاعها الحالية. لا بد من نفضة شاملة تقوم بها المؤسسات العامة من وزارات وبلديات ومجالس وجمعيات تتعاون لتحديث الطرق وتجميلها تسهيلا لانتقال اللبنانيين بين المناطق. كل هذه الأمور تحتاج الى ادارة عامة متطورة تقنيا، ولا ننكر المحاولات السابقة للتحديث انما كانت غير كافية ولم تلبِّ الطموحات.
مطلوب الكثير من السلطات الجديدة، الا أننا نعلم أيضا أنه من المستحيل تحقيق كل شيء في نفس الوقت. لا ننتظر النجاح الكامل، وانما فقط النسبي والسريع أي ضمن قدراتنا المتواضعة ومع تعاون كل المؤسسات الايجابي والموضوعي. تحديد الأولويات الممكنة هو مهم وضروري، ولرئيس الحكومة دور قيادي أكبر من أي وقت مضى في تنسيق الجهود والطاقات والامكانيات وتوزيع المهمات.
نسخ الرابط :