رياض سلامة: حكاية تزوير ميزانيّات مصرف لبنان

رياض سلامة: حكاية تزوير ميزانيّات مصرف لبنان

 

Telegram

يبدو أن تحقيقات القاضية غادة عون التي تدور حول ارتكابات حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، والمدفوعة بعامل النكايات السياسيّة بين العهد والحاكم، ستكشف الكثير عن خبايا المراحل السابقة، وخصوصًا في ما يتعلّق بعمليّات تزوير ميزانيّات المصرف المركزي في الفترة التي سبقت الانهيار المالي.

فطوال الأسابيع الماضية، ظلّت تفاصيل هذه التحقيقات طي الكتمان، بعدما فضّلت الجهة التي قدّمت الإخبار الابتعاد عن تسريب معطياتها لوسائل الإعلام. وأدّى تمنّع الحاكم عن حضور جلسات التحقيق إلى تعطيل الجلسات وزيادة الغموض حول مضامين التحقيقات. أمّا اليوم، وبعد تسرّب جزء من تفاصيل هذه التحقيقات، بات يمكن تلمس الخطوط العريضة للشبهات المتعلّقة بتزوير العمليّات المحاسبيّة في مصرف لبنان، والتي تُضاف إلى الشبهات المتعلّقة بالقروض الممنوحة للمصارف بالدولار الطازج في بدايات الأزمة، والواردة أيضًا ضمن تحقيقات القاضية عون.

التزوير وشركات التدقيق الأجنبيّة
كما هو معلوم، وطوال السنوات التي سبقت العام 2018، لجأ المصرف المركزي إلى الاستعانة بشركتي تدقيق أجنبيّتين (إرنست آند يونغ، وديلويت آند توش)، لإصدار تقارير تصادق على طريقة إعداد ميزانيّات المصرف المركزي. وهذه التقارير لطالما كانت إحدى الحجج التي يستعملها الحاكم لتأكيد شفافيّة ميزانيّاته، وصحّة الإجراءات المحاسبيّة المعتمدة من قبله. لكنّ وبعد إصدار تقرير التدقيق المتعلّق بالعام 2018، قررت الشركتان الانسحاب من مهمّة التدقيق في ميزانيّات المصرف المركزي، والامتناع عن إصدار تقارير مماثلة في الأعوام اللاحقة. وعلى هذا النحو أيضًا، قرّرت شركات تدقيق أجنبيّة أخرى الانسحاب من مهمّاتها المتعلّقة بالمصارف التجاريّة، فيما بدا محاولة من هذه الشركات للحفاظ على مصداقيتها الدوليّة.
العودة إلى آخر تقارير الشركتين، المتعلّقة بميزانيّات مصرف لبنان، تكشف الكثير عن خبايا أساليب تسجيل العمليّات المحاسبيّة التي اعتمدها حاكم مصرف لبنان، والتي تشير إلى ممارسة الحاكم عمليّة "تزوير" منظّمة في احتساب موجودات المصرف، في محاولة لإخفاء الخسائر التي كانت تتراكم تدريجيًّا في ذلك الوقت. وهذه الارتكابات هي تحديدًا ما تتقفّى أثره التحقيقات القضائيّة الجارية اليوم. مع الإشارة إلى أنّ تحفّظ الشركتين على هذه العمليّات المحاسبيّة، وعدم رغبتها بالمصادقة على هذا النوع من العمليّات، هو تحديدًا ما دفعها إلى الانسحاب من عملها مع مصرف لبنان بعد العام 2018. 

التلاعب بحجم الموجودات
في تقرير شركتي ديلويت آند توش وإرنست آند يونغ، المتعلّق بميزانيّات العام 2018، يتبيّن أن حاكم مصرف لبنان لجأ منذ ذلك الوقت إلى "اختراع" بند ضمن فئة الموجودات، تحت مسمّى "سلامة النظام المالي". وضمن هذا البند، عمد الحاكم إلى تسجيل موجودات وهميّة لا تمثّل أي سيولة فعليّة، مقابل السيولة التي كان يخسرها خلال تلك الفترة. بمعنى آخر، وبدل تسجيل الخسائر المحققة في تلك المرحلة، والتي كانت تتآكل بفعلها الموجودات الفعليّة، عمد الحاكم إلى إخفاء الخسائر عبر تجميع قيمتها في بنود لا تعبّر إلّا عن موجودات وهميّة. وبهذه الطريقة أيضًا، قام الحاكم بخلق بنود أخرى في قائمة الموجودات، مثل بند "أرباح خلق النقد المستقبليّة"، وبند "الموجودات الأخرى". 

ووفقًا لتقرير الشركتين، لم يكن هناك ما يبرّر- من الناحية المحاسبيّة البحتة- خلق كل هذه الموجودات الوهميّة، أو تحديد قيمتها بهذا الشكل، إلّا قرار الحاكم نفسه، الذي أعطى نفسه صلاحيّة استثناء هذه العمليّات من معايير المحاسبة الدوليّة المعتمدة في القطاع المصرفي. ومن هذه الزاوية بالتحديد، بات يمكن إدراج هذه العمليّات ضمن عمليّات التزوير، لأنها انطوت على نفخ الموجودات بشكل احتيالي، بما يمسّ صحّة الميزانيّات وصدقيّة أرقامها. مع الإشارة إلى أن هذه الأساليب المحاسبيّة التي اعتمدها الحاكم مثّلت الأداة الأساسيّة التي اعتمدت لمراكمة الخسائر في الميزانيّات بشكل تراكمي، والتي يدفع ثمنها النظام المالي بأسره اليوم.

أين ذهب المصرف المركزي؟
التقرير نفسه، أشار في ذلك الوقت إلى عدم تمكّن المدققين من القيام بعمليّة جرد فعليّة لما يقارب 60 في المئة من مخزون الذهب الموجود بحوزة المصرف المركزي، بل وعدم التمكّن من تأكيد عدم وجود عمليّات رهن أو تأمين يمكن أن تمس بقيمته أو ملكيته في المستقبل. وهذه المسألة بالتحديد تُركت كملاحظة متحفّظ عليها، على هامش التقرير، لرفع المسؤوليّة عن المدققين. 

مع الإشارة إلى أن المسؤولين في مصرف لبنان برّروا عدم قدرتهم على إجراء الجردات النظاميّة لمخزون الذهب، بوجود تعقيدات بيروقراطيّة، تحول دون الإطلاع على الوثائق المتعلّقة بالذهب المخزّن في الخارج، أو الإطلاع على الذهب الموجود في خزائن المصرف المركزي. وهذه الحجّة تتعارض مع أبسط المبادئ المحاسبيّة، التي تفرض جرد الموجودات والتحقق من وجودها والرهونات والتأمينات المرتبطة بها، سواء من قبل المدققين الخارجيين (كإرنست آند يوند وديلويت آند توش)، أو مسؤولي الرقابة داخل مصرف لبنان.

قروض بمليارات الدولار
المسألة الأخيرة المرتبطة بتحقيقات القاضية عون، تتعلّق بالقروض التي منحت للمصارف التجاريّة خلال بدايات الأزمة، والتي تمكّنت المصارف من تحويلها إلى الخارج كدولار طازج، فيما قامت لاحقًا بسدادها من دولاراتها المحليّة المودعة لدى مصرف لبنان. بمعنى آخر، وبينما كانت المصارف تتمنّع في تلك المرحلة عن تأمين السحوبات النقديّة لعملائها محليًّا، كان حاكم المصرف المركزي يسمح لها بتهريب سيولتها إلى الخارج بأسلوب احتيالي، يقوم على إقراضها هذه الأموال بالدولار النقدي ومن ثم سدادها "باللولار" العالق في مصرف لبنان.

في المحصّلة، من الصعب حسم النقاش حول كل هذه الارتكابات قبل الاطلاع على ورقة طلب الادعاء النهائي التي يفترض أن تصدرها القاضية غادة عون، والتي ستبيّن الأدلّة والمعطيات التي تبرّر هذا الأدعاء. لكنّ حتّى ذلك الوقت، من الأكيد أن التحقيقات القضائيّة باتت تسمح للمودعين في لبنان بمعرفة جزء من تفاصيل عمليّات مصرف لبنان الموثّقة في التقارير المحاسبيّة، والتي أدّت إلى الانهيار الحاصل اليوم، بمعزل عن إمكان وجود جرم جنائي في هذه العمليّات. 

تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

 

Telegram