"خلية الشرعنة": وحدة سرّية عسكرية إسرائيلية تعمل على تبرير استهداف الصحافيين في غزة
لم تعد الحرب الإسرائيلية على غزة تُخاض فقط بالطائرات المقاتلة والمسيّرة والدبابات، بل تجاوزت مستوى الأسلحة الثقيلة إلى فضاء الكلمة والصورة والرواية المصاغة بعناية. في قلب هذه الحرب الخفية، سلط تحقيق صحفي استقصائي الضوء على وحدة سرّية في الجيش الإسرائيلي تُعرف باسم "خلية الشرعنة"، مهمتها الأساسية صياغة التصورات الدولية وإضفاء الشرعية على الرواية الإسرائيلية باعتبارها "الحقيقة الوحيدة"، ومن بين ذلك التنقيب في حياة الصحافيين الفلسطينيين بحثا عن أي خيط يربطهم بحركة حماس، لتبرير قتلهم.
أظهر تحقيق صحفي استقصائي دولي أن الجيش الإسرائيلي أنشأ وحدة سرية بعد أحداث 7 أكتوبر تُعرف بـ "خلية الشرعنة"، هدفها جمع معلومات من غزة تُستخدم لتعزيز الرواية الإسرائيلية في الإعلام الدولي وتبرير عمليات عسكرية مثيرة للجدل، من ضمنها استهداف الصحافيين. وبحسب وسائل الإعلام المشاركة في التحقيق، وعلى رأسها المجلة الإسرائيلية المستقلة +972 نقلا عن مصادر استخباراتية، ركزت هذه الوحدة على تصنيف صحافيين فلسطينيين كأعضاء في حماس، حتى وإن استندت إلى معلومات وصفت بـ"غير المؤكدة أو المشوهة"، في محاولة لتقويض التعاطف الدولي مع ضحايا القصف الإسرائيلي.
استهداف الصحافيين تحت ذريعة "الانتماء"
من أبرز الحالات أنس الشريف، مراسل قناة الجزيرة القطرية، الذي سبق استهدافه بحملة تشويه ممنهجة قبل اغتياله، وسط توثيق متزايد لاستهداف ممنهج للصحافيين. ومع تجاوز عدد الصحافيين القتلى في غزة 200 منذ بداية الحرب وفقا لمنظمة "مراسلون بلا حدود"، ترى منظمات حقوقية دولية أن ملامح سياسة تسعى ليس فقط إلى إسكات الأصوات المستقلة، بل إلى تحويل العمل الصحفي نفسه إلى تهمة بدأت تظهر بوضوح، في إطار رؤية تعتبر الإعلام جزءا من ساحة المعركة، لا أداة لمساءلتها.
محللون يؤكدون أن هذه الاستراتيجية باتت أداة عسكرية ممنهجة لـ "تجريم الصحافة الفلسطينية وتحييدها".
في هذا السياق، يقول المحلل السياسي الإسرائيلي أهرون بريغمان إن "الهدف المحوري لـ "خلية الشرعنة" هو تقويض عمل الصحافيين الفلسطينيين وتوفير المبرر لقتلهم. فالروايات التي تصوغها إسرائيل لتصوير الصحافيين كعناصر في حماس ضعيفة وواهية، لكنها في إطار حربها الدعائية كافية لإضفاء الشرعية على عمليات الاغتيال".
ووفقا لمعلومات من وحدة التحقيقات في إذاعة فرنسا، فإن الجيش الإسرائيلي لا ينكر وجود "خلية إضفاء الشرعية".
أنس الشريف... مثال صارخ
يتجلى هذا النهج في واقعة مقتل مراسل قناة الجزيرة أنس الشريف وأربعة من زملائه في ضربة إسرائيلية قرب مستشفى الشفاء مطلع آب/أغسطس. فقد سارع الجيش إلى نشر وثائق تزعم أنه يعمل مع حماس منذ عام 2013. غير أن الوثائق ذاتها لم تُشر إلى أي صلة بعد 2017، أي قبل سنوات من اندلاع الحرب الراهنة.
كان الشريف، البالغ من العمر 28 عاما، قد كرس شهورا لتغطية الحرب بشمال غزة، ناقلا قصص الجوع والقصف المتواصل. وقد كتب قبيل مقتله: "لم أتردد يوما في نقل الحقيقة كما هي، بلا تحريف ولا تزييف".
اتبعت إسرائيل تكتيكا مشابها عقب مقتل الصحافي إسماعيل الغول ومصوره في يوليو/تموز 2024. بعد أسابيع، وصفه الجيش بأنه "إرهابي من النخبة"، وهي فرع من القوات الخاصة لحماس، مستشهدا بوثيقة تعود لعام 2021 زُعم أنها استُخرجت من جهاز حاسوب مملوك لحماس. إلا أن الوثيقة نفسها ذكرت أنه حصل على رتبته عام 2007، عندما كان الغول في العاشرة من عمره فقط.
"جهد ممنهج لنزع الشرعية عن أصواتنا"
وقال صحافي يعمل في غزة لفرانس24 "إن تكتيكات خلية الشرعية "مثيرة للقلق""، مضيفا أنهم "يعرضون حياة الصحافيين للخطر من خلال ربطهم بالجماعات المسلحة. نعمل حقا في ظل خوف دائم - غارات جوية، وفقدان زملاء، وتكميم أفواه. والآن، أصبح التهديد يطال سمعتنا أيضا، ويحرمنا من الدعم والحماية الدوليين".
يضيف الصحافي: "إنه جهد ممنهج لنزع الشرعية عن أصواتنا وحجب حقيقة غزة عن العالم. يُصورنا كأهداف، لا بصفتنا محترفين ينقلون الحدث
في عام 2024، قامت منظمة "قصص ممنوعة"، التي تجمع صحافيين من جميع أنحاء العالم بالتحقيق في مقتل ما يقرب من مئة صحافي فلسطيني على يد الجيش الإسرائيلي كجزء من مشروع غزة.
يقول المدير التنفيذي للمنظمة لوران ريشار مفسرا في تصريح لإذاعة فرنسا: "يشارك الجيش الإسرائيلي في حملة تضليل حول الصحافيين للإيحاء بأن جميع العاملين منهم في غزة هم عملاء لحماس".
ويوضح أن "الواقع أكثر تعقيدا... يبدأ عادة بشائعات ومقالات على مواقع مقربة من الحكومة الإسرائيلية، تزعم أن صحافيا معينا إرهابي. ثم، بعد أسابيع أو أشهر، يُستهدف هذا الصحافي بطائرة بدون طيار".
السترات الصحافية "باتت تُعرض الصحافيين للخطر بدل أن توفر لهم الأمان"
من جانبه، أوضح ممثل "مراسلون بلا حدود" في الأردن محمد شما أن المنظمة "تعمل على توثيق المعلومات من خلال مراسلين ميدانيين، مع الحرص على تنويع مصادر التحقق والتثبت".
وأضاف المتحدث أن "كل من ينشط في نقل المعلومات بشكل مهني يعد صحافيا، سواء كان منتسبا لمؤسسة إعلامية أم لا. في قطاع غزة، نلاحظ أن العديد من الشباب يشاركون بنشاط في نقل الأخبار والمستجدات، رغم عدم انتمائهم لمؤسسات إعلامية رسمية. يمكن وصفهم بالنشطاء الإعلاميين، لكن من حيث المبدأ، فهم يؤدون دورا جوهريا في نقل الحقيقة".
الصحافي أشار إلى أن ما ترصده المنظمة يدل على أن "إسرائيل تتعامل مع هؤلاء بصفتهم صحافيين، سواء خلال التغطية أو خارجها، مما يعرضهم للاستهداف. ولهذا السبب، نرى أن عددا منهم تخلوا عن ستراتهم الصحافية التي كانت تُفترض أن تحميهم، لأنها باتت تُعرضهم للخطر بدل أن توفر لهم الأمان".
من جهة أخرى، لفت شما إلى أن "الصحافيين يعملون وفقا للخط التحريري لمؤسساتهم، والذي قد يتقاطع أحيانا مع توجهات سياسية معينة. وقد يُستغل هذا الأمر لتبرير استهدافهم أو تصفيتهم، وهو أمر مرفوض. ففي نهاية المطاف، من الواجب حماية جميع الأفراد، وبشكل خاص الصحافيين، لأن استهدافهم أو قتلهم لا يمكن تبريره تحت أي ظرف. القتل، عموما، مدان ومرفوض".
"الصراع الأكثر دموية بالنسبة للصحافيين"
يوم الإثنين، قُتل خمسة صحافيين في ضربتين إسرائيليتين على مستشفى ناصر في قطاع غزة، بينهم من يعمل لقناة الجزيرة ومع وكالتي رويترز وأسوشيتد برس، فيما أسف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو لـ"حادث مأسوي". والثلاثاء، أعلنت نقابة الصحافيين الفلسطينيين عن مقتل صحافي سادس يدعى حسن دوحان، برصاص الجيش الإسرائيلي أيضا، في منطقة المواصي قرب خان يونس بجنوب القطاع.
القصف على المستشفى خلف 20 قتيلا، من بينهم الصحافيون الخمسة وعنصر في الدفاع المدني، وفقا لما أعلن الدفاع المدني في القطاع الفلسطيني، فيما قال الجيش الإسرائيلي إنه سيجري تحقيقا، مع تتالي ردود الفعل الدولية المندّدة.
منظمة "مراسلون بلا حدود" أدانت هذه الغارات، معتبرة إياها جزءا من "القضاء التدريجي على المعلومات في غزة الذي تنتهجه إسرائيل"، ودعت إلى عقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن الدولي.
على الأرض، الواقع يؤكد فداحة الخسائر. فقد قُتل أكثر من 200 صحافي خلال أقل من عامين من القتال، وفقا لمنظمات تعنى بالدفاع عن حرية الصحافة، ليصبح الصراع في غزة الأكثر دموية للصحافيين في التاريخ الحديث.
وفي نيسان/أبريل، وصف معهد واتسون بجامعة براون الأمريكية الوضع بأنه "ببساطة، أسوأ صراع شهده الصحافيون في العالم".
"طمس المعلومات"
"إلى أي مدى ستذهب القوات المسلحة الإسرائيلية في مساعيها لطمس المعلومات تدريجيا في غزة؟ إلى متى ستواصل انتهاك القانون الإنساني الدولي؟"، يتساءل مدير منظمة "مراسلون بلا حدود"، تيبو بروتين.
ويرى المحلل السياسي الإسرائيلي أهرون بريغمان بأن إسرائيل "تقتل الصحافيين الفلسطينيين كما لو كانوا ذبابا. أسلوبها بسيط: تسمح بدخول الصحافيين والمؤثرين إلى قطاع غزة، معتقدة أنهم سيدعمون الرواية الإسرائيلية، وتُسكت - غالبا بالرصاص - من يُعارض روايتها".
باستثناء قضية أنس الشريف، تُصر إسرائيل على أن عملياتها لا تستهدف الصحافيين عمدا، مؤكدة أن الغارات الجوية تستهدف المسلحين والبنية التحتية العسكرية فقط.
في أعقاب الهجوم الأخير على مستشفى ناصر، أمر رئيس أركان الجيش بإجراء تحقيق أولي، مؤكدا أن جيش الدفاع الإسرائيلي "لا يستهدف الصحافيين بأي شكل من الأشكال".
لكن المنظمات المدافعة عن حرية الصحافة تقول إن النهج واضح: "صحافيون يُشوّهون سمعتهم ويُتهمون بالإرهاب، "يُقتلون في غارات تبررها هذه الادعاءات نفسها".
يرى بريغمان أن المنطق يكمن في السيطرة على المعلومات، وليس في ضرورة ساحة المعركة.
ويقول: "إن الأمر كله مرتبط بالإعلام والسيطرة على الرواية التي تريد إسرائيل أن يصدقها العالم. ولا علاقة له بالعمليات الأمنية والعسكرية".
أصبح الصحافيون هم الهدف
"توسع إسرائيل سيطرتها على رواية ما يجري في غزة خارج منطقة الصراع، وتؤطر إنجاز التقارير الأجنبية بشكل صارم من خلال السماح بالوصول فقط للصحافيين المرافقين لقواتها".
يقول لوران ريشار: "هذه إحدى الحالات النادرة في التاريخ الحديث التي لا يتمكن فيها الصحافيون الراغبون في التغطية الميدانية من تسليط الضوء على صراع بهذا الحجم. عندما ترفض دولة ما السماح للصحافيين الأجانب بالوصول إلى منطقة حرب، فإن ذلك يُمثل مشكلة ديمقراطية كبرى فيما يتعلق بالوصول إلى المعلومات".
خلية إضفاء الشرعية ليست مجرد أداة علاقات عامة، بل تُجسد عسكرة المعلومات، إذ تدقق كل كلمة أو صورة أو تقرير باعتبارها تهديدا محتملا. في هذا الإطار، لا يقتصر دور الصحافيين على نقل الأخبار فحسب، بل يُصبحون هم أنفسهم أهدافا.
في هذا السياق، يقول المراسل الذي رفض الكشف عن هويته: "إن كونك صحافيا لا يعني بالضرورة أن تكون هدفا، ولكن لسوء الحظ يحاول الجيش الإسرائيلي تصنيفنا على هذا النحو، مما يسبب صدمة للجمهور وللمراسلين أنفسهم".
هذا الكلام يؤكده زميل له بالقول: "منذ اندلاع الحرب، نعيش في قلب الاستهداف المباشر. لم نعد فقط ننقل الأخبار، بل أصبحنا نحن أنفسنا الخبر، وذلك لسببين رئيسيين: لإسكاتنا ولترهيب الآخرين. نحن جميعا محكومون بالإعدام، بدون معرفة موعد التنفيذ. ناهيكم عن ذلك، نواجه العديد من العقبات اللوجستية التي تعرقل حياتنا اليومية، مثل انقطاع الكهرباء، وصعوبة التنقل، وندرة المحروقات. نضطر للمشي كيلومترات طويلة وسط هذه الظروف الصعبة، بالإضافة إلى الحرب الإعلامية الشرسة التي تخاض ضدنا يوميا".
ماذا يقول القانون الدولي؟
يفصل القانون الدولي الإنساني بين نوعين من الصحافيين المعتمدين أثناء النزاعات المسلحة: المراسلون الحربيون المعتمدون من القوات المسلحة، والصحافيون المدنيون المستقلون.
وتوجب المادة 79 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1977، حماية الصحافيين المدنيين أثناء النزاعات المسلحة، وتعتبرها من ذات الحماية التي يتمتع بها المدنيون.
كما أن القرار الأممي رقم 2222 الصادر عن مجلس الأمن في عام 2015، شدد على ضرورة حماية الصحافيين في مناطق النزاع، واعتبار أي استهداف لهم بمثابة تهديد للسلم والأمن الدوليين.
ووفقا لاتفاقية جنيف 1949 والبروتوكول الإضافي الأول 1977، يتمتع الصحافيون بوضعية مدنيين ما دامت مهامهم لا تنطوي على مشاركة مباشرة في الأعمال القتالية، ويجب حمايتهم.
علاوة على ذلك، سبق لمجلس الأمن أن أصدر قرارات عدة بشأن حماية الصحافيين، تدين استهدافهم وتشدد على ضرورة معاملتهم كمدنيين.
هذه القرارات نصت أيضا على ضرورة حماية المعدات والمكاتب الإعلامية، باعتبارها أصولا مدنية لا يجوز استهدافها أو الرد عليها بعمليات انتقامية.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp
تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram
(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)
:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي