ثمّة أشياء لا تُؤخذ بالحرب، ولا تُنسى بالهدنة، ولا تُباد بالحصار. من هذه الأشياء، بيئة نشأت في رحم كربلاء، وتربّت على نداء الحسين، وعزيمة زينب دروس الصبر والتمرّد. ليست بيئة حزب الله حالة طارئة في الجغرافيا اللبنانية، بل امتداد زمني لعقيدة حيّة، تنمو منذ أكثر من ألف عام، كلّما سُفك فيها دم، اشتدّ عودها، وكلّما قُتل منها رجل، وُلد ألف مقاوم.
هي ليست جمهورًا سياسيًا يتبدّل بتبدّل الحكومات، بل ذاكرة دموية تُروى كل عام على المنابر، وتُحيا في وجدان أجيال تتناقل الرواية من النائح إلى المقاتل، من الأم إلى الشهيد، ومن التراب إلى التراب.
من هنا، لم يعد سلاح المقاومة هو القلق الأكبر لدى خصومها. فهم باتوا يدركون أن هذا السلاح، حتى لو فُرض نزعه، فإن البيئة التي أنجبته قادرة على صناعته من جديد. لهذا، تحوّل الاستهداف من البندقية إلى مَن يَحملها، من الصاروخ إلى اليد التي تطلقه، من الفعل إلى الفكرة، من المقاومة إلى رحمها.
الأميركي، ومن خلفه العدو الصهيوني، لم يعُد يراهن على الحروب المفتوحة. هو يعرف أن هذه البيئة جُرّبت في تموز، وفي الغارات، وفي حصار الضاحية، فخرجت منها أنقى وأصلب. ما لم يستطع أخذه بالنار، يحاول أخذه الآن بالهجرة. مشاريع تُطبخ على نار باردة، هدفها تفريغ الأرض من أهلها، لا فقط من بندقيتها. تهجير ناعم، مغطّى بالفرص والمساعدات، وبمداخل اقتصادية واجتماعية ظاهرها التنمية، وباطنها الاجتثاث.
الهدف واضح: أن تُفرَّغ القرى الجنوبية، أن تُستنزف الضاحية، أن يُخلى البقاع، أن يرحل أبناء هذه البيئة إلى العراق، الأردن، الخليج، وأبعد، لأن هذه الأرض لا تُحكم ما دامت بيئة المقاومة فيها، لأنهم يعلمون أن هناك، في تلك البيئة، يولد الإيمان سلاحًا، ويُحمَل الله في القلوب والميادين.
لكنهم نسوا — أو تناسوا — أن هذه الأرض ليست أرضًا فقط، بل كربلاء تتكرر في كل بيت. نسوا أن من ودّع ابنه شهيدًا على طريق القدس، لن يُغرَّر عليه بعقد عمل. من سحب ولده من سريره وأرسله إلى الحدود الجنوبية يوم نادى النداء، لن يُبدّله جواز سفر ولا جنسية.
بيئة تُشيّع ابنها وتغسل دمه بدموع الزينبيات، وتُقابل التابوت بالزغاريد، وتنتظر نداء التكليف بقلوب مفتوحة على الشهادة… هذه بيئة لا تُهجَّر، ولا تُشترى، ولا تُباع.
كيف يُقتلع مَن صار ترابًا؟ كيف يُهجّر مَن صار حدودًا؟
كل شهيد غرس، كل أم صارت شجرة.
الذين يُستشهدون لا يرحلون، بل يُصبحون في الأرض، فيها يُدفنون ومنها ينبتون.
وكم من أمّ لبنانية، حين جاءها نبأ استشهاد ابنها، لم تبكِ، بل رفعت رأسها وقالت:
“لو عندي غيره كنت بعتّه.”