كلمات؟ ما نفع الكلمات؟ هذا زمن الدماء. هذا عصر تتنافس فيه الجثث على درب المقابر. هذا زمنٌ تُقتل فيه فلسطين ولا تموت. فلسطين ممنوعة، ولكنها مُصرّة على ولادتها في صخب القتل. هي من معجزات التاريخ. هي وحدها ولا أحد يشبهها. أبداً. أليس غريباً أن نشهد حرباً عالمية على غزة؟ يتعب المقاتلون ولا يتعب الشهداء. أسماؤهم كلها فلسطين. وبكاؤهم ظلال لدمهم، ودمهم قرين لقربانة المسيح ودموع مريم. على رجاء الحرية والحياة. بين القتل والولادة، يحضر الفلسطيني، كعادته منذ مائة عام. ليعلن ولادة بيت لحم. كلمات؟ إنما، لا يتعب عدّاد القتلى. لا يتعب الشهداء. لا بأس أن تنام جدران المنازل.. وينام القتلى مفتوحي الأعين. الرصاص يصير عزفاً لمأساة تلد مأساة. كحليٌ ودمويٌ هو المدى. لا حاجة إلى نوافذ وشبابيك. السماء مضاءة بالدماء. أصوات الرصاص مثخنة ومتعبة. إنها بطاقة عبور إلى الشهادة. وما علينا سوى أن نؤلف نص الشهادة. شهادة الصعود الدائم إلى الأمل الصعب. إلى حيث ترسم الجراح سماء فلسطين وحدودها. ثم ماذا؟ هذا زمن العار الإنساني. موسم الافتضاح الغربي. فلنعترف عن جد، بأننا أبرياء جداً. لم نرتكب خطأ أو خطيئة بحق الغرب الفاخر والثري والنهم الذي لا يشبع. الغربُ غولٌ مستدام.
أحلف، بالملايين، أننا لم نرتكب صفعة. أننا كنا ذات عصور شعوباً متآخية. العصور العربية شهدت حياة مشتركة. كنا مسلمين ومسيحيين ويهوداً وأقواماً. الدماء التي سفكت لم تكن إلا بسبب النزاع على سلطة. حروب بالمئات. لا تنكيل ولا تهجير ولا سفك. اليهود لعبوا دوراً إقتصادياً كبيراً. وحلّوا ما بين قندهار وطنجة اقتصادياً. كانوا صندوق مال الخلفاء والقادة. قائد الجيوش العربية في إسبانيا، كان يهودياً. ورثه ابنه بعد 17 عاماً. هذا في زمن كان يسفك الغرب دم اليهودي ويطارده ويطرده، ليعيش وحيداً، ذليلاً، شاكياً. اليهود في أوروبا، كانوا يشبهون البدو الرحَل. لأنهم “أنجاس مناكيد”، حسب شعر أبو الطيب المتنبي. لماذا كل هذا؟
نحن برّاء من المجازر العرقية والعنصرية والدينية. الغرب مكتظ بالدماء والسفك. العثمانيون كذلك. الأرمن ضحايا السفك والتمييز على أيدي جنرالات أتراك. تخرّجوا عسكرياً وفكرياً في ثكنات الغرب العنصري. لذا، اقترفوا جرائم ومجازر بحق الأرمن الذين تاهوا وتفرَّقوا وما زالوا. الغرب عدواني. إلهه لا يشبه يسوع المسيح أبداً. هنا الهناء والبقاء والحب والسناء. وهناك، في الغرب تحديداً، جحيم وبراكين كراهية، ومنصات استعلاء، وحروب غزو واحتلال ونهب وارتكاب. تذكّروا ما ارتكبوه في إفريقيا وأميركا (أين سلالة الهنود الحمر؟). الغرب يمحو جرائمه السالفة بارتكاب جرائم أخرى، وهو مستعد دائماً، لارتكاب مخز جداً. الحروب تجارة مربحة للمنتصرين، وخسائر فادحة للمهزومين. كم جريمة حتى الآن؟ كم مذبحة حتى الغد؟ كم أرضاً محروقة في ما بعد؟ كم جرحاً ينزُ دماً وألماً وفقداناً؟ كم مقبرة بعد. الأرض لا تتسع للشهداء. أهي إبادة؟ بكل تأكيد. يجب أن يتنحى الفلسطيني عن الوجود. بايدن “الرجيم”، يعجب لماذا لم تُقدم “إسرائيل” على إلغاء فلسطين إلى الأبد وتبديد الفلسطينيين في مقابر الأحياء والأموات. قرار الغرب الأنيق، أن يُمحى الفلسطيني من الوجود. أن لا يكون في الخريطة أي ظل له. أن تتولى الصهيونية قيادة العرب، من المحيط إلى الخليج. علامات الزمن ظاهرة على الخريطة الراهنة. إمارات وممالك وسلطنات الخليج، تطيع قبل أن يأتيها الأمر. التطبيع قرار أميركي. معظم أنظمة العرب: زحفاً، زحفاً، زحفاً إلى تل أبيب. يصح فيكم ما قاله مظفر النواب: القدس عروس عروبتكم، فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها، ووقفتم تسترقون السمع وراء الأبواب لصرخات بكارتها، وسحبتم كل خناجركم وتنافختم شرفاً، وصرختم فيها أن تسكت صوناً للعرض، فما أشرفكم.. أولاد القحبة هل تسكت مغتصبة؟ لا مبالغة أبداً، في اعتبار الحرب على “غزة العظمى” الصغيرة، حرباً عالمية جداً. الغرب كله، من أميركا إلى فرنسا إلى بريطانيا إلى ألمانيا إلى كل أنظمة النهب والإخضاع والاستتباع، هم حضارة الذئاب المفترسة وقادة ابتكار الحروب والإخضاع والاستتباع والقبض على عنق الثروات في الكرة الأرضية “المسكينة”. هذا الغرب هو سليل هولاكو وجنكيزخان والفايكنغ وعرصات الحروب الصليبية، وهو الذي لا يمت بصلة إلى الأخلاق والقيم والمساواة والحرية والتنمية وكل جميل ونافع.. هو الذي يقول: “من بعد حماري ما ينبت حشيش”. “أولاد القحبة لا أستثني منكم أحداً”. ثم ماذا؟ إياك أن تنتظر عربياً بعد الآن. العرب خِراف في حظائر الغرب. أتباعٌ مُطيعون. يصومون عن العروبة. لا يستذكرون فلسطين إلا في “الإنشاء” العقيم.. هل تابعتم كلام عبد الفتاح السيسي الذي يدل “إسرائيل” على الأمكنة التي يجب أن يتم طرد الفلسطينيين إليها؟
“يا ذلنا، يا عارنا، يا كل شيء ضدنا”. لذا، لا دهشة أبداً، إن صار الفلسطيني ممنوعاً في “الدول العربية”. الفلسطيني في لبنان لعنة ووباء. فوضوي غريب. مُلوَّث. يشهد على ذلك بؤسه في المخيمات. الفلسطيني في العراق كما في سوريا مُشتبه به. مُراقب. تحت المجهر. ممنوع من التداول.. الفلسطيني في دول الإمارات والممالك حدِّثْ ولا حرج. مطلوب منه أن يتطهر من فلسطين. مصر أغلقت أبوابها وسيّجت سيناءها وانسحبت إلى فضاء “إسرائيلي” ـ أميركي. القومية في خبر كان. السودان فضيحة. مُطبّع ومُتقطّع بدمه. ليبيا من الجنون الفردي إلى مجانين الذئاب. تونس وحدها تستحق أن نرفع نخبها “كاسك.. يا تونس”. أما النظام المغربي، فحاضنة لـ”إسرائيل” ومحضون منها. أرضنا دمنا. نحن من الصبّار نولد. نزرع دمنا نخيلاً. لن نغترب. تهجرنا كثيراً. بلادنا خيام رثة وممعوسة ومشبوهة. توزعنا كالقتلى في المنافي وفي مدى الصفيح والخيام. نغترب نحن ولا تغترب البلاد. سنعود من أحزاننا. لدينا موهبة الدم. دمنا الأخير يُولد مراراً. هو زيتون الأراضي وأغصان الرجاء. ما زلنا حتى اليوم نتذكر الأندلس.. إذاً، لن تغادرنا فلسطين. “سنكون حيث تكون، أو ستكون حيث نكون”. هل تسمعنا يا الله؟
(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)
:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي