أزمة الذهب الأزرق في لبنان الأخضر

أزمة الذهب الأزرق في لبنان الأخضر

 

Telegram

 

يغرق لبنان في أزمة اقتصاديّة سياسيّة اجتماعيّة غير مسبوقة، ينهار في اثرها إلى حدّ عودته إلى «العصر الحجريّ» مع تزايد النقص في المنتجات الأساسيّة للحياة اليوميّة. لبنان الذي يُعتبر وجهة سياحيّة بامتياز، يُعرف اليوم بمسائه المظلم قد تخفّ وطأته لطول ساعات النهار صيفًا، لكنّ صيف اللبنانيّ حارق بعد أن اعتاد على التكييف، وكلّ شيء يزيده غمًّا، فلا كهرباء، ولا نفس، ولا حتّى ماء بارد يُطيّب قلبه. هذا البلد الذي كان يخطّط لمقايضة ذهبه الأزرق بالذهب الأسود، أي المياه مقابل النفط، أضاع مسؤولوه الماء والنفط في بحثهم عن صفقات مشبوهة وخاسرة على كافّة الأصعدة.

 

تترابط في المشهد اللبنانيّ القطاعات الحيويّة ببعضها، فمسألة التنقيب عن النفط ما زالت عالقة، ووضع التيّار الكهربائيّ ليس أمرًا يُخفى على أحد، فقد تصل مدّة انقطاعه إلى ٢٢ ساعة في بعض المناطق، وقد توقّفت بعض محطّات الطاقة عن العمل منذ عدّة أشهر تقريبًا، وهكذا تتساقط القطاعات الحيويّة تباعًا مثل أحجار الدومينو لتضرب قطاع المياه المتهالك... فإن قبِلنا بأنّ الوقود والكهرباء مفقودان لأنّ مصادرهما غير محلّية... كيف نقبل بوضع المياه في لبنان، بلد الينابيع والأنهار والمواسم الممطرة؟ كيف نصدّق أنّ بلدًا متوسّطيًّا يعاني أزمة في المياه الجارية، أو مياه الشرب؟ أيُعقل أن تكون هذه الأزمة الحيويّة غير موجودة ضمن المطالب الأوّليّة لدى النوّاب، والحكومات المتتابعة؟ هل سمعنا عن خطّة أو مشروع جادّ لإصلاح إمدادات المياه؟ أم أنّ ذلك لا يصبّ في قناة المصالح الضيّقة، ويبقى اللبنانيّ يدفع «الغالي» من أجل أن يؤمّن أحد أهمّ المصادر الحيويّة ليعيش... أن يشرب!

 

إنّ أزمة المياه تضرب مستوَيين أساسيّين، المستوى الأوّل مياه الشرب التي تتفاقم مع الأزمة الاقتصاديّة، إذ اعتاد اللبنانيّ في السابق على شراء المياه المعبّأة، وأصبح هذا السلوك أسلوب حياة بديهيّ، وارتبط بالرفاهيّة، لا بل حتّى بتطوّر البلد وتقدّمه، فشاعَ أنّ شرب الماء من «الحنفيّة» أمر غير حضاريّ... أمّا الآن في أثناء الأزمة الاقتصاديّة الحاليّة، يُهدّد أربعة ملايين شخص، أي حوالى ٧٠ % من السكّان، بخطر عدم الوصول إلى المياه الصالحة للشرب، لأنّ النظام القائم على المياه مسبقة التعبئة وتوزيعها يتأثّر بشدّة بنقص الوقود وصعوبة التوصيل.

 

ومن تداعيّات أزمة النفط وغلائه، استخدام الوقود لتشغيل المولّدات الكهربائيّة الخاصّة التي تعوّض تقصير شركة كهرباء لبنان، وكذلك تؤدّي المولّدات الكهربائيّة دورًا هامًّا في ضخّ المياه، وتصنيع الزجاجات البلاستيكيّة. وفي حال النجاح في التغلّب على هذه العوائق، تبقى مسألة التوصيل شائكة، لأنّ نقص الوقود يُعيق توزيع المياه على المحال والسوبر ماركت، والشركات، والمنازل. جميع هذه الظروف كبحت عمليّة الإنتاج، وبالتالي زادت تكلفة السلعة الواحدة بشكلٍ عام على منتجيها. كما لجأت هذه الشركات إلى التقنين، وحَدَّت الكميّات المباعة للأفراد. وأصبح المواطن مجبورًا على عدّ «القَطَرات» المستهلكة في الطهي، والشرب، لأنّ تلك المياه المعبّأة تبقى الأضمن في ظلّ غياب محطّات التكرير وتنقية المياه الطبيعيّة.

 

الغريب في الأمر أنّ المسؤولين يبحثون عن احتمال وجود ثروة نفطيّة في البحر اللبنانيّ، ولا يحافظون على الثروة المائيّة المضمونة على أراضيه وفي جوفه. إذ يُعدّ بلد العاصي والليطاني، بوفرة أنهاره وينابيعه وبحيراته، من أكثر البلدان ثراءً بالمياه في المنطقة. وعلى الرغم من ذلك، من دون المياه المعبأة، يعيش اللبنانيّ درجات أعمق من الحرمان، بعد حرمانه من الوقود، والمواصلات والاتّصالات، والأدويّة والرعاية الصحيّة، والنظام الغذائيّ المتوازن، جاء الدور ليُحرم من «كبّاية الميّ».

 

أمّا المستوى الثاني في أزمة المياه يكمن في إمدادات المياه الجارية، إذ لا يمكن أن تخرج المياه من الصنابير المنزليّة إلّا إذا توفّرت الكهرباء لضخّها من الخزّانات إلى جهاتها المنزليّة والتجاريّة… فأصبحت الحالة أشبه بالمناطق المتصحِّرة مع أنّنا في لبنان الأخضر، البلد العربيّ الوحيد الذي لم تعرف أراضيه الصحراء. فلبنان، جنّة الشرق، يتمتّع بـ ٢٠٠٠ ينبوع، و٤٠ نهرًا، كما يخصّص حوالى ١٠٠٠ متر مكعّب من المياه سنويًّا للفرد، في حين تمتلك المملكة الأردنيّة معدّل حوالى ١٥٨ مترًا مكعّبًا بحسب أرقام منظّمة الأغذية والزراعة والبنك الدوليّ. ومن المؤكّد أنّ هذا وضع يُحسد عليه بالمقارنة مع جيرانه، لكن يبقى هذا الرقم أقلّ بكثير ممّا يتوافر للفرد في فرنسا مثلًا، بواقع ٣٠٠٠ متر مكعّب سنويًّا.

 

أمّا الأسباب الجذريّة لأزمة المياه في لبنان فتعود إلى ضعف سعة التخزين، وشبكات الإمداد المتهالكة، وتدفّق كميّات كبيرة من المياه إلى البحر من دون استغلالها، وزيادة الطلب عليها. وبحسب الإحصائيّات الرسميّة، يتلقّى لبنان ٨,٥ مليارات متر مكعّب من الأمطار سنويًّا، يتبخّر منها ٤,٥ مليارات متر مكعّب، ويتسرّب ١,٢ غيرها إلى خارج الأراضي اللبنانيّة، ويتمّ تصريف ما يقرب ١,٥ في البحر الأبيض المتوسّط. أمّا ما تبقّى فيتوزّع على النحو التالي: ٦٥٠ مليون متر مكعّب من المياه السطحيّة، و٥٥٠ مليون متر مكعّب من المياه الجوفيّة، ممّا يزيد مخزون هذه الأخيرة. ومع ذلك، يستخدم لبنان ما يقرب من ٦٥٠ مليون متر مكعّب منها سنويًّا، ممّا يعني أنّه يسحب من ١٠٠ إلى ١٥٠ مليون متر مكعّب سنويًّا من احتياطاته، فيتمّ استهلاكها بدلًا من أن تظلّ مستقرّة أو حتّى تتزايد.

 

هكذا نجد أنّ إدارة قطاع المياه في ينبوع الشرق الأوسط على «البَرَكة»، إذ يتمّ استغلال ١٠ % فقط من هذه الموارد، ويبلغ معدّل الهدر حوالى ٤٠ % منها، ويعود جزء كبير من هذه الخسارة إلى عدم صيانة شبكات الإمداد. يُقابلها سيطرة سوق موازٍ خاصّ يحصل على ٧٥ % من نفقات المياه لدى الأُسرة اللبنانيّة، وهذا ما يزيد من إرهاقها في ظلّ الأزمة الاقتصاديّة. بالتأكيد، اعتمد اللبنانيّ على المياه المعبّأة في السنوات التي سبقت الأزمة الاقتصاديّة التي تعصف بالبلاد حاليًا، وكانت الشركات تستثمر وتنوّع بالسِلع لأنّها كانت تشكّل تجارة مزدهرة، ووصلت الانتاجيّة إلى ٨٠٠ مليون لتر من المياه المعبّأة سنويًّا. أمّا على صعيد «المياه الجارية» وككلّ أزمة في البلد، تظهر شريحة تستغلّ الأوضاع، وبعد أن نسينا أزمة تهريب صهاريج المازوت، ظهرت أزمة صهاريج المياه.

 

وبالعودة الى تاريخ المياه وواقعها، نجد أنّه منذ أوائل التسعينات، استثمر لبنان في قطاع المياه ما معدّله ٠,٥ % من الناتج المحلّيّ الإجماليّ السنويّ. كما تمّ إنفاق أكثر من ملياري دولار أميركيّ، أو ما متوسّطه ١٤٢ مليون دولار سنويًّا، على بناء أو إعادة تأهيل البنيّة التحتيّة كالآتي: ٦٨ % على إمدادات مياه الشرب، و٢٣ % على الصرف الصحّي ومعالجته، و٩ % على الريّ. إنّ هذه الأرقام وما تعكسه من مبالغ مصروفة في هذا القطاع ليست كافية وحسب، بل مضلّلة، إذ تمّ تخصيص جزء كبير من الأموال للبنية التحتيّة التي لا تزال معطّلة، مثل محطّات معالجة مياه الصرف الصحّي التي لا تعمل لأنّها غير متّصلة بنظام المجاري.

 

وعلى الرغم ممّا ذُكِر، فإنّ أيّ استثمار في زيادة إنتاج «الذهب الأزرق» سيضيع هباءً إذا لم يقترن بإعادة تأهيل شبكات إمدادات المياه، التي تنقلها إلى وجهتها النهائيّة، وقد تعرّضت لأضرار جسيمة في أثناء الحرب الأهليّة، وهي مسؤولة عن ٤٠ % من ضياع المياه. كما أنّ الأزمات السياسيّة المتلاحقة التي تعرقل أيّ تقدّم في مشاريع البنيّة التحتيّة، والتشتّت الكبير للمسؤوليّات في قطاع المياه من جهة، وروح التحاصص بين الأحزاب السياسيّة من جهة أُخرى، هي من الأسباب الرئيسيّة للتأخيرات الملحوظة في تجديد شبكة الأنابيب، والصرف الصحّي، والسدود (المدروسة)، ومعالجة جميع مياه الصرف الصحّي، وكأنّهم يُريدون لبنان بلا حياة لأنّه بلا ماء.

 

اليوم، بالإضافة إلى تأثير نقص الوقود على شركات الإنتاج والتوزيع، يعاني السكان أيضًا أزمة ماليّة أدت إلى زيادة حادة في الأسعار في جميع المجالات. فقد ارتفعت أسعار المياه المعبّأة ارتفاعًا هائلًا في أقلّ من عامين، فبعد أن كان سعر قارورة المياه سعة لتر ونصف يبلغ ١٠٠٠ ليرة لبنانيّة، أي ما كان يُعادل حينها ٦٦ سنتًا أميركيًّا، وبسبب موجة التضخّم وفقدان العملة المحلّيّة قيمتها بنسبة ٩٠ % تقريبًا، أصبحت قارورة المياه المعبّأة تُصنّف من الكماليّات بعد أن تضاعف سعرها مرّات عديدة، وتدلّ على رفاهيّة طبقة قليلة ما زالت تحصل على مداخيلها بالعملات الأجنبيّة، وهي قادرة على دفع قيمة هذه السلعة الحيويّة. أمّا ما يخصّ غالبيّة السكّان، التي ما زالت رواتبهم بالعملة المحلّيّة، فإن هذا العبء الثقيل على ميزانيّتهم، قد يدفعهم إلى بدائل غير سليمة في الفترة الحاليّة، وقد يكون لها تبعات صحيّة كبيرة في المستقبل. وأصبحت تكلفة التزوّد بالمياه للاغتسال، والتنظيف، والشرب تفوق الحدّ الأدنى للأجور في بعض الأحيان.

 

بعد هذا الإيجاز عن وضع البنية التحتيّة للمياه في لبنان، من دون أن ننسى وضع مياه الريّ وتلوّثها، وإذا وضعنا أزمة المياه الجارية في المقام الثاني لأنّ توافرها يمكن أن تعوّضه الكلفة المرتفعة أو التقنين في الاستهلاك، تبقى معضلة مياه الشرب الأشدّ، فقد نجد بعض اللبنانيّين يميلون إلى معالجة هذ الأزمة بسبلٍ هي بحدّ ذاتها خطيرة. تُشير صفحة وزارة الصحّة الرسميّة على شبكة الإنترنت إلى اعترافها بأكثر من ٣٠ شركة مياه معبّأة معتمدة، وتخضع لمراقبتها الدوريّة، لكن على الأرض الواقع، تُطرح التساؤلات عن كيفيّة تعامل هذه الشركات مع تبعات الأزمة الاقتصاديّة المتفاقمة.

 

كذلك، كيف تُطبّق الهيئات التنفيذيّة الحكوميّة سياسة المراقبة والمتابعة في ظلّ الضائقة الماليّة، وسوء الإدارة والفساد المتفشّي، وهي غير قادرة على أقلّ تقدير على إصلاح الأنابيب المتصدّعة والصدئة، أو معالجة إمدادات المياه بشكلٍ صحيح؟ ونسأل هل بحثت عن خطط بديلة للمعالجة بالكلور وتأمين الفلاتر التي تستوردها على اختلاف أصنافها؟ وكيف تؤمّن ضمان سلامة المياه عندما تكون العقود الحكوميّة في غالبيّتها بالليرة اللبنانيّة التي تكاد تنعدم قيمتها؟

 

إنّ ضمائر بعض المسؤولين قد تسرّب إليها نَتن الفساد عبر الزمن، وبالطبع لن تفكّر بسلامة أطفال لبنان الذين قد يتعرّضون لأمراض سارية نتيجة الفقر وفي بعض الأحيان الجهل. ونرى ممّا سبق عرضه، أنّ المياه الملوّثة قد أصبحت في طريقها إلى المنازل «إن وصلت»، لأنّ كميّات كبيرة منها تتسرّب عبر الأنابيب المتصدّعة، وأنّ شريحة اللبنانيّين المعرّضين للأمراض المنقولة عبر المياه تتّسع مع اتّساع فقرهم... أمّا بخصوص المسؤولين، فنجدهم في صحراء قاحلة وواحتهم ضيّقة الحلول لا أمل فيها.

 

فما نفع تجميع المياه في السدود وأخذ صوَر «السيلفي» معها، إذا كنّا لا نعرف كيف نوصلها إلى غايتها النهائيّة؟ لا لأنّ السدود نفسها لا تستطيع حبسها لفترة طويلة، بل لأنّ شبكات الإمدادات مهترئة كضمائر من قاموا بالتفكير بمصالحهم الشخصيّة والاستفادة الماديّة من المساعدات الدوليّة على حساب سلامة اللبنانيّ. ولماذا نستغرب هذه التصرّفات ممّن اؤتمنوا على أموال اللبنانيّين وبخّروها، وهم يهدرون مصادر غنى البلد في ضياع ٤٠ % من ثروته المائيّة من دون محاسبة؟ فلا لدينا ماء للرّي، ولا ماء للشرب، وتربة لبنان كشعبه عطشى لا للماء وحسب. وإن تذرّع أحدهم بأنّ القائمين على قطاع الطاقة «ما عم يخَلوّهن» يضمنوا ضخّ المياه وتنقيتها... نودّ التنويه بأنّ القطاعين ينتميان إلى الوزارة نفسها!

تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

 

Telegram