تكامل الدولة والمقاومة في مواجهة العدوان الإسرائيلي: نحو استراتيجية دفاعية لبنانية شاملة

تكامل الدولة والمقاومة في مواجهة العدوان الإسرائيلي: نحو استراتيجية دفاعية لبنانية شاملة

 

Telegram

في ظل تصاعد الحروب الإقليمية وتنامي التهديدات الإسرائيلية المستمرة ضد لبنان، يعود إلى الواجهة مجدداً النقاش حول ضرورة صياغة استراتيجية دفاعية وطنية تحفظ سيادة الدولة وتستفيد من جميع عناصر القوة اللبنانية – الرسمية والشعبية – ضمن إطار مؤسساتي منظم وشرعي.
فلبنان، الذي يفتقر إلى قدرات عسكرية جوية وصاروخية متطورة، يقف أمام معادلة دقيقة: كيف يمكنه الدفاع عن أرضه وشعبه في مواجهة جيش إسرائيلي يمتلك ترسانة ضخمة من الطائرات والدبابات والتقنيات المتقدمة؟
الإجابة لا تكمن في سباق تسلّح مستحيل الكلفة، بل في بناء منظومة دفاعية متكاملة تستند إلى ما يمتلكه البلد فعلياً من قدرات ميدانية وخبرات مقاومة تراكمت على مدى عقود، ضمن إطار وطني واحد يخضع للقرار السياسي المركزي للدولة اللبنانية.

أولاً: خلفية الحاجة إلى الاستراتيجية الدفاعية
منذ اتفاق الطائف عام 1989، بقيت مسألة «الاستراتيجية الدفاعية» بنداً دائماً في الحوارات الوطنية اللبنانية، دون أن تُترجم إلى صيغة عملية.
تكرّست هذه الحاجة أكثر بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي من الجنوب عام 2000، ثم بعد حرب تموز 2006 التي أظهرت قدرة المقاومة على الصمود والردع، مقابل ضعف القدرات النظامية للجيش اللبناني في مواجهة هجوم شامل.
واليوم، مع تزايد الغارات الإسرائيلية في الإقليم، وتبدّل خرائط النفوذ في المنطقة، تبرز ضرورة عاجلة لوضع رؤية دفاعية تحمي لبنان من أي عدوان جديد، وتمنع في الوقت نفسه تحوّل الأراضي اللبنانية إلى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية.

ثانياً: منطلقات الاستراتيجية الدفاعية المقترحة
1- السيادة الوطنية الكاملة: كل قرار عسكري أو أمني يجب أن يصدر عن مؤسسات الدولة الشرعية، عبر مجلس الوزراء والمجلس الأعلى للدفاع.
2- التكامل لا الازدواجية: الهدف ليس إنشاء جيشين أو سلطتين، بل توظيف كل عناصر القوة في خدمة مشروع وطني واحد، تحت سقف الدولة.
3- الردع والاحتواء معاً: المطلوب ليس فقط ردع العدوان، بل أيضاً تفادي الحروب المفتوحة وحماية المدنيين والبنية التحتية.
4- المرونة العملياتية: طبيعة التهديد الإسرائيلي تفرض اعتماد دفاع غير متماثل (Asymmetric Defense)، يعتمد على الانتشار الشعبي، والتحصين، والمفاجأة، وليس فقط على الجبهات الكلاسيكية.

ثالثاً: أدوار الجيش اللبناني والأجهزة الأمنية
رغم ضعف التسليح الثقيل، يتمتع الجيش اللبناني بقدرات بشرية وانضباطية عالية تؤهله لأن يكون العمود الفقري لأي استراتيجية دفاعية وطنية.
يمكن تحديد مهماته ضمن المحاور الآتية:
1- القيادة والسيطرة: يشكّل الجيش المرجعية القيادية العليا لكل العمليات الدفاعية، بما في ذلك التنسيق مع المقاومة في حالات الطوارئ وفق آليات محددة مسبقاً.
2- الدفاع الميداني عن المدن والبنى التحتية: تعزيز انتشار الوحدات العسكرية في المناطق الحساسة، خاصة على طول الحدود الجنوبية، لحماية المدنيين ومنع الاختراقات.
3- الاستخبارات والمراقبة: تطوير قدرات الرصد الإلكتروني والبشري، وتعزيز التعاون مع الأجهزة الأمنية (الأمن العام، أمن الدولة، استخبارات الجيش) لمراقبة التحركات المعادية ومنع الاختراقات الإسرائيلية.
4- الدفاع المدني والدعم اللوجستي: تجهيز مراكز الإغاثة والإخلاء وتدريب وحدات على التعامل مع الهجمات الجوية والصاروخية، وضمان استمرار الخدمات الحيوية (الكهرباء، المياه، الاتصالات).
5- بناء الشراكات الدولية الدفاعية: دون المساس بالسيادة، يمكن للبنان أن يوسع علاقاته الدفاعية في مجالات التدريب والتجهيز مع الدول الصديقة والمنظمات الدولية.

رابعاً: المقاومة كعنصر قوة وطني
لا يمكن تجاهل أن المقاومة اللبنانية شكّلت منذ الثمانينيات عنصراً محورياً في حماية لبنان وردع العدوان الإسرائيلي. خبراتها القتالية، وقدرتها على المناورة في بيئة غير متكافئة، جعلت منها ركيزة ردع فعالة اعترف بها الخصوم قبل الأصدقاء.
في الاستراتيجية الدفاعية المقترحة، تُستفاد من المقاومة ضمن إطار محدد المعالم:
1- التنسيق العملياتي المنظم: تُوضع آلية تنسيق دائمة بين قيادة الجيش وقيادة المقاومة تحت إشراف المجلس الأعلى للدفاع، تحدد الخطوط الحمراء، وقواعد الاشتباك، ومناطق العمل.
2- وظيفة دفاعية لا هجومية: مهمة المقاومة في هذه الاستراتيجية هي الدفاع عن لبنان فقط، وليس فتح جبهات خارج الحدود أو اتخاذ قرارات تصعيدية منفردة.
3- حماية المدنيين: الالتزام الصارم بالقانون الدولي الإنساني، وتفادي العمليات التي قد تستجلب ردود فعل مدمرة على المناطق المدنية.
4- الاستفادة من الخبرات: يمكن للمقاومة أن تشارك في برامج تدريب وتطوير قدرات الجيش اللبناني في مجالات الدفاع غير المتماثل، وحرب المدن، والمراقبة الميدانية.

التجارب السابقة أثبتت أن غياب التنسيق، وتعدّد مراكز القرار، وغياب التخطيط المسبق، تكلّف لبنان أثماناً باهظة

خامساً: دور الأجهزة الأمنية
الأجهزة الأمنية (الأمن العام، أمن الدولة، قوى الأمن الداخلي، واستخبارات الجيش) تمثّل الحلقة الاستخبارية والتنظيمية في هذه المنظومة الدفاعية.
تُناط بها مهمات حيوية أبرزها:
-كشف أي نشاط عدواني أو تخريبي يستهدف البنية الأمنية الداخلية أثناء الحرب.
-تأمين التواصل بين المؤسسات الرسمية والمجتمع المدني أثناء الأزمات.
-مكافحة التجسس الإسرائيلي، خاصة عبر الفضاء الإلكتروني والتقنيات الحديثة.
-إدارة أمن المعلومات والإعلام لضمان وحدة الخطاب الوطني وعدم اختراق الجبهة الداخلية.

سادساً: الهيكل المؤسساتي المقترح
لضمان التنسيق الفعّال بين الجيش والمقاومة والأجهزة الأمنية، يمكن إنشاء «المجلس الوطني للدفاع الشامل»، يضم ممثلين عن: رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة، قيادة الجيش ومديرية المخابرات، رؤساء الأجهزة الأمنية، ممثلين سياسيين بإشراف رئاسة مجلس الوزراء.
يتولى المجلس وضع الخطط العامة للدفاع، وإقرار قواعد الاشتباك، وإدارة الأزمات الوطنية.
وبذلك تُحفظ وحدة القرار العسكري تحت مظلة الدولة، دون إلغاء أي مكوّن واقعي من مكونات القوة الوطنية.

سابعاً: البعد المدني والإنساني
أي حرب مستقبلية مع إسرائيل ستطال المدنيين أولاً، لذا يجب أن يتضمن التخطيط الدفاعي بعداً إنسانياً متكاملاً:
- إنشاء هيئة طوارئ وطنية تُنسق بين الجيش، الصليب الأحمر، الدفاع المدني، والبلديات.
- تطوير شبكات إنذار مبكر وتحذير المدنيين من الهجمات الجوية.
- تأمين الملاجئ والمخازن الاستراتيجية للغذاء والدواء.
- وضع خطة إعلامية وطنية تُجنّب الشائعات والانقسام، وتوحّد الخطاب الداخلي.
ثامناً: البعد الديبلوماسي والسياسي
الاستراتيجية الدفاعية ليست عملاً عسكرياً فقط، بل جزء من سياسة أمن وطني شاملة. يُفترض أن تتكامل الجهود العسكرية مع خطوات سياسية وديبلوماسية لتقليل المخاطر، وتشجيع دعم دولي للبنان في حال العدوان.
ومن بين هذه الخطوات:
- تفعيل دور وزارة الخارجية في شرح الموقف اللبناني للمجتمع الدولي.
- مطالبة الأمم المتحدة بتطبيق القرارات الدولية التي تمنع الاعتداءات الإسرائيلية.
- تعزيز العلاقات مع الدول العربية والإسلامية لدعم لبنان سياسياً ولوجستياً.

تاسعاً: التحدّيات والعقبات
رغم أهمية الفكرة، تواجه هذه الاستراتيجية تحديات عدّة:
- الخلافات الداخلية حول سلاح المقاومة ودوره.
- الضغوط الدولية التي قد تعارض أي صيغة توحي بشرعية سلاح خارج إطار الجيش.
- الانقسام السياسي والطائفي الذي يعطّل الإجماع الوطني المطلوب.
- ضعف التمويل والتسليح للجيش اللبناني.
تجاوز هذه العقبات يتطلب إرادة سياسية جامعة وقيادة وطنية تضع المصلحة العليا فوق الاعتبارات الفئوية.

خاتمة
إنّ بناء استراتيجية دفاعية لبنانية واقعية لا يعني إعلان الحرب، بل تحصين لبنان ضد الحرب.
فالتجارب السابقة أثبتت أن غياب التنسيق، وتعدّد مراكز القرار، وغياب التخطيط المسبق، تكلّف لبنان أثماناً باهظة.
من هنا، فإنّ دمج قدرات المقاومة ضمن مظلّة الدولة ومؤسساتها الشرعية ليس تنازلاً لأي طرف، بل خيار وطني عقلاني يهدف إلى تحويل القوة العسكرية غير النظامية إلى قوة ردع منظمة تخدم لبنان، وتحمي شعبه، وتحافظ على استقراره.
إنّ نجاح هذه المقاربة يتطلّب شجاعة سياسية، ورؤية وطنية جامعة، ووعياً بأن الدفاع عن لبنان مسؤولية مشتركة، لا يمكن أن يحتكرها طرف أو جهة بمفردها. فالأمن الوطني لا يُبنى على القوة وحدها، بل على الوحدة، الشرعية، والقدرة على إدارة التنوع اللبناني بما يخدم الوطن كله.
طبعاً الاستراتيجية الدفاعية تتطلّب تفصيلاً دقيقاً للخطط العسكرية بكل بنودها ومحاورها، التي يجب أن تكون تحت طابع سرّي لا يعلم بها إلى المعنيون ولا يمكن تعميمها.
* خبير عسكري، عميد متقاعد

| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) .اضغط هنا

تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

 

Telegram