لكن الهجوم على الرئاسة يتجاوز الأشخاص، ليطال موقعًا وطنيًا حساسًا يسعى إلى حماية لبنان من الانزلاق نحو حرب أهلية. الانتقادات التي توجّه اليوم إلى الرئيس جوزيف عون، وكأنّه وحده المسؤول عن مسار الدولة أو عن هيمنة السلاح على البلاد، تفتقر إلى الإنصاف وتتجاهل حقائق يعرفها اللبنانيون.
من السهل تحميل قائد الجيش – ثم الرئيس – تبعات خيارات فرضتها منظومة كاملة من قوى طائفية وميليشياوية وسياسية واقتصادية متشابكة منذ عقود. لكن الإنصاف يقتضي الاعتراف بأن الرئيس مشى دائمًا “بين الألغام”، في لحظة كان أي قرار متهوّر كفيلًا بإشعال حرب أهلية جديدة.
في تشرين الأول 2019، حين كانت الساحات تغلي، كان بإمكانه أن يجرّ الجيش إلى قمع دموي للتظاهرات بحجة “استعادة النظام”. لكنه رفض، وفضّل امتصاص الغضب الشعبي بدل إغراق البلد بالدماء. لبنان كان على شفير الفوضى الشاملة، وامتناع الجيش عن البطش أنقذ أرواح الآلاف وجنّب البلاد مشهدًا سوريًا أو ليبيًا.
القول إنّه غطّى الميليشيا أو تواطأ مع طرف على حساب آخر، يتجاهل أنّه كان يحاول تجنّب فتنة مذهبية مفتوحة. أي مواجهة مباشرة بلا توازن داخلي وخارجي كانت ستتحول إلى مدخل لحرب أهلية، لا إلى دولة قوية.
ومن يتحدث عن اتفاقيات سابقة وُصفت بـ«اتفاقيات العار»، ومنها اتفاقية القاهرة، ويزعم أنّها أدّت إلى وصول رؤساء الجمهورية، عليه أن يتذكر السياق التاريخي: هذه الاتفاقيات كانت جزءًا من مسار أدى إلى وصول قادة الجيش في تلك المرحلة – من أمين البستاني إلى فؤاد شهاب – إلى سدّة الرئاسة، بما يتماشى مع رؤاهم حول حماية الدولة.
القادة آنذاك لم يسعوا إلى المناصب على حساب السيادة أو الاستقلال، بل عملوا على حفظ الدولة في ظروف صعبة، كما يظهر من لقاء فؤاد شهاب بجمال عبد الناصر في الخيمة على الحدود، لإثبات شرعية لبنان وسيادته أمام كل الأطراف. أما السيادة التي كانت تُرفض دائمًا التهديدات والسيطرة الخارجية، والتي دفعت لبنان أحيانًا إلى التعامل القسري مع المحتلّ، فقد أظهرت أنّه لا حول لنا ولا قوة إلا بالوعي والحكمة السياسية، ومن هنا جاءت القرارات التي جنبَت لبنان المجازر الداخلية.
ما يحتاجه لبنان اليوم ليس تحويل الخلاف إلى معركة شخصانية ضد الرئيس، ولا تصويره كأنه سبب المأساة. المطلوب حوار وطني صريح حول سلاح الميليشيات، انهيار النظام، والمسؤوليات الجماعية المتراكمة منذ عقود.
إنصاف الرئيس لا يعني تقديسه، بل الاعتراف بأنه لم يكن يملك عصا سحرية في بلد محكوم بالمحاور والسلاح والتوازنات الخارجية. ومن يتجاهل ذلك يقدّم خدمة مجانية لمن يريد للبنان الانصياع التام إلى مشاريع الخارج.
| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) .اضغط هنا
نسخ الرابط :