يواجه مجلس الإنماء والإعمار، ورئيسه السابق نبيل الجسر، دعاوى قضائية تتعلّق بجرائم هدر المال العام في ملف تلزيم شبكات الصرف الصحي في لبنان. كما يلاحق أحد المتعهدين، ع. س.، بادعاءات مرتبطة بالغش في المناقصات ومخالفات بيئية.
وفُتح الملف قضائياً إثر إخبار تقدّمت به «المصلحة الوطنية لنهر الليطاني» في أيار الماضي، ممثَّلة برئيس مجلس إدارتها سامي علوية، أمام النيابة العامة التمييزية، التي أحالته بدورها إلى المدعي العام المالي آنذاك القاضية دورا الخازن التي استدعت المعنيين في «الإنماء والإعمار» والمتعهد.
وبناءً على تقرير أصدره ديوان المحاسبة في نيسان الماضي حول إدارة مجلس الإنماء والإعمار لمنظومة الصرف الصحي في لبنان على مدى 24 عاماً، قدّم علوية إخباراً ركّز فيه على محطتَي تمنين والمرج في البقاع، استناداً إلى صلاحياته على حوض الليطاني المتضرر من تعطيل تشغيلهما.
وأوضح أن «التمويل متوافر للمحطتين، لكنّ هناك تحايلاً أو امتناعاً عن التنفيذ»، في حين لا يمكن الملاحقة في ما يخص المحطات غير المُلزّمة أو غير المموّلة. وسلك الملف مساره من النيابة العامة المالية التي ادّعت على مجلس الإنماء والإعمار والجسر والمتعهّد، إلى قاضي التحقيق الأول في البقاع.
وتشير المعطيات أيضاً إلى أن ديوان المحاسبة يواصل متابعة الملف، وقد طلب من مجلس الإنماء والإعمار العقود التفصيلية ودفاتر الشروط والكشوفات وجداول المقارنة لكل مشاريع الصرف الصحي في لبنان.
ولفهم آليات التواطؤ والغش، تنبغي العودة إلى خلاصة تقرير ديوان المحاسبة الذي أظهر أنّ نحو مليار دولار صُرفت على مشاريع الصرف الصحي، فيما بقيت عشرات محطات التكرير خارج الخدمة، وتحوّلت مجرد كتل إسمنتية وخزانات ملوِّثة من دون أن تُحقّق الأهداف المرجوّة منها لجهة معالجة المياه.
وأوضح أنّ مجلس الإنماء والإعمار وحده مسؤول عن إنفاق أكثر من 800 مليون دولار على محطات وشبكات، غالبيتها إمّا متوقفة عن العمل أو تعمل بأسلوب بدائي. وبينما استمرّت المياه الملوثة بالتدفّق في مجاري الأنهار، وفي مقدمتها نهر الليطاني، وصولاً إلى البحر، أنفق لبنان نحو 9 ملايين دولار على صيانة منشآت لم توضع يوماً في الخدمة.
وتبيّن أنّ عدداً من المحطات أُنجز من دون أن يُربط بشبكات صرف صحي لكي تصلها المياه المبتذلة، فيما أنجزت شبكات في مناطق لا تضم محطات. كما كُشِف عن محطات تفتقر إلى أحواض المعالجة الأولية، أو أُقيمت في مواقع لا حاجة فيها إليها، في مقابل محطات أُخرى تعاني ضغطاً يفوق قدرتها الاستيعابية.
وهذا يعني، بحسب التقرير، أنّ «الإنماء والإعمار» لم يكن يدرس احتياجات المناطق والمخاطر، وأنّ التعديلات المتكررة على المشاريع ناتج من سوء التخطيط. فالعاصمة بيروت وضواحيها، مثلاً، لا تزال تعتمد على محطة معالجة بدائية وحيدة، بينما نصف محطات الجنوب متوقفة أو تعمل جزئياً.
وفي البقاع، هناك محطتان خارج الخدمة وستّ محطات تعمل دون المستوى المطلوب. والنتيجة المباشرة: نحو 50 ألف مقيم في حوض الليطاني يعتمدون على مياه شرب ملوثة، تُستخدم أيضاً لري ما يقرب من 8,396 هكتاراً من الأراضي الزراعية. وقدّر حجم الصرف الصحي غير المعالج الذي يُرمى في الحوض الأعلى بنحو 46 مليون متر مكعب سنوياً.
تلاعب بالأسعار وتعديل للمواصفات وإنفاق 9 ملايين دولار على صيانة منشآت لم توضع يوماً في الخدمة
والسؤال البديهي الذي يفرض نفسه: لماذا تنتهي معظم ملفات تلزيم مشاريع الصرف الصحي التي أطلقها مجلس الإنماء والإعمار إمّا بغياب الشبكات مع تنفيذ محطة، أو غياب المحطة مع تنفيذ الشبكات، أو الاكتفاء بتنفيذ جزئي لهذه أو تلك؟ ولماذا تخضع هذه الملفات باستمرار لتعديلات تطاول أقطار الشبكات وأطوالها، ومواصفات المحطات، ودفاتر الشروط، بحيث تتحوّل عملياً إلى عائق يحول دون استكمال المشاريع وإنجازها؟
الجواب المتداول أنّ مجلس الإنماء والإعمار كان، في بعض الحالات، يؤمّن التمويل للمحطات دون الشبكات أو العكس. لكن الجواب الحقيقي الذي ينطبق على معظم الحالات، بحسب ما يقول معنيون بالملف لـ«الأخبار»، هو أنّ التمويل غالباً ما يكون متوافراً لكليهما، وتُطرح المناقصات في صفقة واحدة تتضمن بندين: أحدهما للشبكات والآخر للمحطة.
فيقدّم المتعهّد سعراً «محروقاً» وغير منطقي لأحد البندين (الشبكات أو المحطة)، وسعراً فعلياً للبند الآخر، بحيث يصبح مجموع العرض هو الأدنى بين المتنافسين، فترسو الصفقة عليه.
عند التنفيذ، ينفّذ المتعهّد الجزء الذي قدّم بشأنه السعر الفعلي، فيما يتعثر في تنفيذ الجزء الآخر الذي خفّض سعره. لاحقاً، يطالب بفروقات أسعار للبند المتعثّر بحجة تعديل الكلفة، فيحصل عملياً على ربح إضافي يفوق السعر الأدنى الذي رست عليه المناقصة. وفي غالب الأحيان، لا يُنجز الجزء الثاني إطلاقاً، بل يتحوّل تمويله إلى فروقات أسعار للجزء الأول، ما يفضي في النهاية إلى منظومة مبتورة وغير مكتملة.
وفي صيغة أخرى لهذه الحيلة، تفيد المصادر بأنّه يجري اللجوء إلى تعديل المواصفات، عبر إعادة دراسة المحطة أو الشبكات بذريعة أنّ دفتر الشروط يمنح المتعهّد حق التصميم. ونتيجةً لذلك، تُعدَّل المواصفات عمداً في ظل محدودية التمويل، فيُنفَّذ المشروع بشكلٍ جزئي. وتتقاطع التأكيدات على أنّ هذه الممارسات الاحتيالية لا يمكن أن تتمّ إلا بوجود «تواطؤٍ ثلاثي بين المتعهّد والاستشاري وإدارة مجلس الإنماء والإعمار، أي مجلس الإدارة مضافاً إليه مدير المشروع».
سؤال آخر يُطرح هنا: هل يقتصر هذا التحايل على مشاريع الصرف الصحي، أم يمتدّ إلى قطاعات أخرى؟ الجواب أنّه حاصل بالفعل في ملفات الطرقات. فمثلاً، «قد ينصّ دفتر الشروط على تأهيل وتحضير وتعبيد الطرق، إضافةً إلى بند السلامة العامة الذي يشمل تخطيط الطرق، وضع الإشارات والتأشير، وتركيب معدات الحماية والتوجيه مثل الحواجز المعدنية والعواكس الضوئية.
عندها يُقدم المتعهّد على حرق سعر بند السلامة العامة لخفض العرض الإجمالي، فترسو المناقصة عليه باعتباره صاحب السعر الأدنى. لكن عند التنفيذ، ينفّذ ما يناسبه فقط، ويحصل على فروقات أسعار أو كميات، فيما تقوم الإدارة (وزارة الأشغال أو مجلس الإنماء والإعمار) عملياً بإعفائه من تنفيذ بند السلامة العامة.
لذا، على الهيئات الرقابية والقضاء العدلي التوسّع في التدقيق في كل مشاريع الصرف الصحي، وفحص دفاتر الشروط وملفات التلزيم ومحاضر الاستلام، إضافة إلى قرارات مجلس إدارة «الإنماء والإعمار» ذات الصلة، والكشوفات، وملفات تعديل الكميات أو الأسعار أو الأعمال الإضافية.
كما تكمن العبرة في صياغة دفاتر الشروط بشكل واضح وشفاف، وفي تعزيز دور هيئة الشراء العام، إلى جانب الدور المفترض لمفوّض الحكومة في مجلس الإنماء والإعمار، وصولاً إلى إخضاع تصديق قرارات المجلس لرئاسة الحكومة باعتبارها الجهة الوصائية عليه.
مع ذلك، لا يمكن تجاهل وجود تواطؤ محتمل بين الفريق المحلي التابع للبنك الدولي ومجلس الإنماء والإعمار، مع ملاحظة أنّ قروض المجلس تُطبَّق وفقاً لقواعد الشراء المعمول بها في البنك الدولي، لا قانون الشراء العام اللبناني، ما يفرض تدريب الإدارة وديوان المحاسبة على هذه القواعد لضمان الرقابة الفعّالة.
| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) .اضغط هنا
نسخ الرابط :