بقلم د .محمد هاني هزيمة محلل سياسي وخبير استراتيجي
في زمنٍ تتنازع فيه الخرائط والأدوار، ويضيع فيه الشرق بين نيران الحروب وصمت التفاهمات الغائبة، يحضر معالي الدكتور علي لاريجاني، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، لا ليكون مجرد زائر رسمي، بل حاملًا في زيارته إلى بيروت دبلوماسية القرار من قلب المشهد، من بيروت الى القوقاز
إنها زيارة تخرج عن المألوف في توقيتها ودلالاتها. فبيروت، التي لا تهدأ على وقع التجاذبات الداخلية والضغوط الخارجية، تستقبل رجل دولة بمقام لاريجاني، رجل جمع بين الفكر الاستراتيجي والقدرة على إدارة التوازنات وسط أكثر البقاع اضطرابًا.
دبلوماسيته ليست خطابًا ناعمًا فحسب، بل خيوطًا من القرار تُنسج بهدوء في عمق اللعبة الإقليمية. لاريجاني، القادم من قلب المؤسسة الإيرانية، لا يتحدث من فراغ. ظهوره في هذا التوقيت هو رسالة بحد ذاته: أن إيران تتابع، ترصد، وتدير تفاعلها مع الملفات الكبرى انطلاقًا من الساحات الحساسة، ولبنان أحد أكثرها رمزية.
فزيارته ليست عزلة عن الميدان، بل انغماس عميق فيه، تحمل طابعًا استشرافيًا لما هو قادم. اللقاءات التي عقدها مع رؤساء السلطات الثلاث، والحوارات مع القوى الروحية والسياسية اللبنانية والفلسطينية، ليست تفصيلًا بروتوكوليًا، بل خريطة حوار تفتح أبوابًا على احتمالات كثيرة.
فالرجل لم يأتِ ليقدّم موقفًا واحدًا، بل ليُعيد التذكير بأن القرار الإقليمي لا يُصنع في غرف مغلقة فقط، بل في تفاعل صريح مع الشعوب والقوى الحيّة في الميدان.
ومن بيروت، التي كانت دومًا مرآة لصراعات المنطقة، يخرج صوت لاريجاني كدبلوماسية تختلف عن الحسابات الغربية: دبلوماسية تبني التفاهم على الشراكة لا الهيمنة، وعلى الاحترام المتبادل لا الإملاء.
وقد يكون هذا الفارق الجوهري ما يمنح زيارته بعدًا حاسمًا في لحظة مصيرية. في حضوره، بدت بيروت وكأنها تلتقط أنفاسها، كأنها تستعيد بعضًا من حضورها الغائب في القرار الإقليمي.
فالرسائل التي حملها لاريجاني لا تقف عند السياسة، بل تمتد إلى الأمن، الاقتصاد، وقضية المقاومة، التي تُعتبر حجر الزاوية في المعادلة اللبنانية ـ الإقليمية. وهو ما يُفسّر الاهتمام الواسع بالزيارة، محليًا وإقليميًا.
في النهاية، لاريجاني لا يغادر بيروت كما دخلها. لقد ترك فيها نبضًا مختلفًا، وإشارات تتجاوز لحظة الاستقبال. لقد مارس دبلوماسيته من قلب المشهد، لا من فوقه، وقال — من دون أن يرفع صوته — إن الشرق لا يُدار إلا بأبنائه، وإن القرار فيه لا يُمنح، بل يُنتزع بثبات العقول ووضوح البصيرة.
فهل تلتقط العواصم الإقليمية والدولية هذه النغمة؟ وهل تتحول زيارته من مناسبة آنية إلى خطوة في طريق إعادة التوازن إلى الشرق؟ الجواب لا يزال في طور التكوين... لكن الصوت سُمع، والرسالة وصلت.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :