استعمال الشارع في السياسة: وسيلة ديمقراطية أم إساءة للشعب مصدر السلطات؟

استعمال الشارع في السياسة: وسيلة ديمقراطية أم إساءة للشعب مصدر السلطات؟

 

Telegram

 

بقلم الدكتورة رشا ابو حيدر

في الأنظمة الديمقراطية، يُعتبر الشعب مصدر السلطات جميعها، وفقًا لمبدأ السيادة الشعبية الذي كرّسته معظم الدساتير الحديثة. وتتفرع عن هذه القاعدة وسائل مشروعة ومتعددة للتعبير عن الإرادة الشعبية، منها ما هو مؤسسي (كالانتخابات والاستفتاءات)، ومنها ما هو احتجاجي (كالإضرابات والتظاهرات). غير أن السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: هل يُعدّ استعمال الشارع من قبل القوى السياسية وسيلة ديمقراطية مشروعة للتأثير في القرار العام، أم أنه قد يتحوّل إلى شكل من أشكال الإساءة إلى الشعب بإفراغ إرادته من مضمونها المؤسساتي؟

أولًا: المشروعية الدستورية لاستعمال الشارع كأداة تعبير سياسي

تضمن معظم الدساتير الحديثة الحق في حرية التعبير، وحرية التجمع السلمي، والاحتجاج المشروع. فالمادة 20 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تنص على أن “لكل شخص الحق في حرية الاشتراك في الجمعيات والجماعات السلمية”، والمادة 21 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية تؤكد حق التظاهر السلمي. أما في الدساتير الوطنية، فتجد هذا الحق مصونًا كإحدى أدوات التعبير السياسي.

ففي الدستور اللبناني مثلًا، تنص المادة 13 على أن “حرية إبداء الرأي قولًا وكتابة، وحرية الطباعة، وحرية الاجتماع، وحرية تأليف الجمعيات، كلها مكفولة في حدود القانون”.

وفي الدستور الفرنسي، رغم عدم النص المباشر، فقد كُرّس هذا الحق من خلال القوانين التنظيمية وقضاء مجلس الدولة.

وعليه، يُعتبر استعمال الشارع وسيلة مشروعة، بل وصحية، في المجتمعات الديمقراطية، شريطة التزامها بالسلمية وعدم تهديد النظام العام أو تعطيل المؤسسات.

ثانيًا: بين التعبئة الديمقراطية والتجييش السياسي – الشعرة الرقيقة

الخط الفاصل بين التعبير الشعبي المشروع والاستغلال السياسي للشارع، هو مدى النية والوسيلة. حين تُعبّر حركة الشارع عن نبض شعبي عفوي، مطالبًا بحقوق أو معترضًا على قرارات مجحفة، تكون دليلاً على الحيوية الديمقراطية. لكن حين يُستخدم الشارع كأداة بيد قوى سياسية لتحقيق أهداف خاصة، أو لإفشال خصومها، دون مسوّغ شعبي حقيقي، نكون أمام تحوير لإرادة الشعب.

ويصبح هذا التجييش مضرًا حين يُقدَّم على المؤسسات: أي حين يُستخدم للضغط خارج الإطار الدستوري، كبديل عن الانتخابات، أو لإلغاء دور القضاء أو البرلمان أو الحكومة.

وفي بعض التجارب، وخصوصًا في الأنظمة ذات التوازن الهش، أدى هذا الاستخدام المفرط للشارع إلى تقويض الاستقرار (كما في بعض الدول العربية بعد 2011، أو في لبنان بعد 2019 حين انزلقت التظاهرات إلى شلل مؤسساتي دون أفق واضح).

ثالثًا: الشعب مصدر السلطات، لا أداة ابتزاز سياسي

تُكرّس دساتير الديمقراطيات المعاصرة مبدأ أن السيادة تعود للشعب، ويمارسها عبر المؤسسات. فالدستور لا يمنح السيادة للشارع بمعناه الفيزيائي، بل يمنحها للشعب باعتباره جسمًا سياسيًا يُعبّر عن نفسه من خلال انتخابات، استفتاءات، ومؤسسات تمثيلية.

لذا فإن تحويل “الشارع” إلى سلطة موازية، أو بديلة عن البرلمان أو القضاء، يُعدّ انحرافًا عن العقد الدستوري، ويؤدي إلى ما يُسمّى “الديمقراطية الشعبوية”، حيث يُساق الشعب في اتجاهات عاطفية، من دون مساءلة أو تنظيم.

إن خطر “شارع بلا مؤسسات” يُشبه خطر “مؤسسات بلا شرعية”، فكلاهما يفرغ الديمقراطية من مضمونها. والتحدي الأكبر هو في تحقيق توازن: يُحترم فيه الحق في الاحتجاج، دون أن يُستخدم كوسيلة ابتزاز أو فرض غير دستوري لإرادة أقلية سياسية.

لا خلاف في أن الشارع أحد أبرز أدوات التعبير الديمقراطي. لكن الشرعية الدستورية تقتضي أن يُستخدم في الإطار السلمي، بعيدًا عن التسييس، وضمن منطق التكامل مع المؤسسات لا استبدالها. الشعب ليس أداة في يد السياسيين، بل هو مصدر السلطات التي تُمارَس ضمن قواعد القانون والدستور.

إن الحفاظ على دور الشارع كوسيلة ضغط ديمقراطية، لا يجب أن يتحوّل إلى وسيلة ضغط لا ديمقراطية باسم الشعب ذاته. 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

 

Telegram