تسليم السلاح يعني الإبادة..

تسليم السلاح يعني الإبادة..

 

Telegram

 

ثمانية أشهر مرّت على اتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان والعدو الإسرائيلي، ولا التزامَ إسرائيلياً ببنود الاتفاق.
أمام هذا الاستحقاق، قررت السلطات اللبنانية تجريد لبنان من عنصر القوة الوحيد الذي يمتلكه: «سلاح المقاومة».
هي خطوة تهدف إلى نزع الشرعية عن المقاومة بالكامل، وتجريمها شعبياً، وخلق صدام داخلي يجرّ الشعب إلى مواجهة مع الجيش الموكل مهمة تطبيق القرار، والاستسلام الكامل، دون قيد أو شرط، للهيمنة.
ولكن، هل الاستسلام دون قيد أو شرط مرادف للنجاة؟
لا! التاريخ زاخر بنماذج لدول وشعوب وحركات مقاومة رفعت رايات السلام/الاستسلام في وجه غازٍ متعطّش أو محتل لا يفقه إلا لغة القوة، وسلّمت سلاحها بفعل خداع أو بعد وعود وضمانات دولية، فكانت النتيجة إما إذلالاً تاماً، وإما إبادة جماعية.
1- غرناطة: آخر قلاع المسلمين خانتها المعاهدات
في 2 كانون الثاني 1492، سلّم آخر ملوك غرناطة، أبو عبد الله الصغير، مفاتيح المدينة بنفسه إلى الملكين الكاثوليكيين فرديناند وإيزابيلا، في مشهد مهين لسقوط آخر معاقل المسلمين في الأندلس، مقابل معاهدة وُقّعت بين الطرفين.
ونصّت الاتفاقية على ضمان حرية العبادة للمسلمين، والسماح لهم بممارسة شعائرهم الإسلامية دون تدخل، والحفاظ على ممتلكاتهم وبيوتهم وعدم مصادرتها، وعدم إجبار أحد على التحول إلى المسيحية، والسماح للقضاة الشرعيين بممارسة القضاء الإسلامي في قضايا المسلمين، والامتناع عن تدمير المساجد أو تحويلها إلى كنائس، بالإضافة إلى السماح للمسلمين بالسفر من المدينة وإليها دون خوف.
كان هدف هذه البنود طمأنة المسلمين ودفعهم إلى القبول بالاستسلام دون مقاومة، وهذا ما حدث، فعندما دخل القشتالييون المدينة، وقف الغرناطيون على الأسوار يراقبون راياتهم ترتفع شيئاً فشيئاً، دون أي مقاومة عسكرية. ولكن الوعود سرعان ما تبخّرت. فقد أُحرقت المصاحف والكتب الإسلامية، وأُجبر الناس على التنصير أو مواجهة الطرد أو القتل، وحُوِّلت المساجد إلى كنائس، وقُمعت أي مقاومة. كما شهدت تلك المرحلة بداية ما عُرف بـ «محاكم التفتيش»، التي لاحقت المسلمين المتنصّرين قسراً (الموريسكيين) وأعدمت كثيراً منهم بتهم «الردة».
وهكذا، كانت نتيجة السلام في مقابل الغزاة، إبادة إنسانية وثقافية ودينية، وهجرة قسرية جماعية. ويبقى أفضل ما يُقال فيها، ما قالته أمّ عبدالله لابنها وهو يهرب من غرناطة وعيناه ملأى بالدموع: «ابكِ كالنساء مُلكاً مُضاعاً لم تحافظ عليه كالرجال».
2- «سكان أميركا الأصليون» (الهنود الحمر، بتعريف الاستعمار): معاهدات الأرض المسمومة
تُعدّ مذبحة ووند ني (Wounded Knee Massacre) التي وقعت في 29 كانون الأول 1890، التي جاءت بعد توقيع عشرات المعاهدات مع المستعمرين الأوروبيين والولايات المتحدة، واحدةً من أبرز الأحداث دمويةً ومأساوية في تاريخ الولايات المتحدة، وشكّلت نهاية فعلية لما يُعرف بـ«حروب الهنود» بين السكان الأصليين والجيش الأميركي. إذ نتيجة للثقة بالمستعمرين ومعاهداتهم، سلّمت قبائل السكان الأصليين أسلحتها طمعاً بالأمن والبقاء.
وبعد أن خسرت غالبية أراضيها، وتعرّضت لتهجير قسري ممنهج، ظهرت حركة دينية تُدعى «رقصة الشبح» (Ghost Dance) بين قبائل السيو (Lakota Sioux)، تؤمن بأن هذه الرقصة ستعيد أراضيها وتحميها من الرجل الأبيض، وتجلب السلام وتُعيد الأموات. ما أثار ذعر السلطات الأميركية، التي رأت فيه تمرداً محتملاً. فكانت النتيجة مذبحة راح ضحيتها مئات الرجال والنساء والأطفال العزّل، ومنح 20 جندياً أميركياً «وسام الشرف» عليها!
3- هيروشيما وناغازاكي: «الإفناء» ركيزةً للهيمنة
في السادس والتاسع من آب عام 1945، ارتكبت الولايات المتحدة الأميركية جريمة لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية، حين ألقت قنبلتين ذريتين على مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين، في نهاية الحرب العالمية الثانية، سقط نتيجتهما ما يقارب 80 ألف شخص في هيروشيما، وأكثر من 70 ألفاً في ناغازاكي، كما مات عشرات الآلاف لاحقاً من الحروق والإشعاعات، التي ظل أثرها يمتد لعقود.
ولكنّ أهم ما في الأمر، أن اليابان كانت قبلها قد بدأت فعلياً خطوات للتفاوض على الاستسلام، عبر وساطات دول محايدة مثل الاتحاد السوفيتي. إلا أن الأميركيين، بدلاً من استكمال المسار السياسي، اختاروا الإرهاب النووي ركيزةً للهيمنة الأميركية الأحادية على النظام العالمي ما بعد الحرب. فقد أرسلت الولايات المتحدة، بهذه الجريمة، رسالة رعب إلى العالم، وتحديداً إلى السوفييت، الذين كانت قواتهم تتقدم باتجاه مقاطعة منشوريا في الشمال الشرقي للصين، ما شكّل خطراً على الولايات المتحدة لا يمكن أن ترضى به، لتُفهمهم أنها باتت تمتلك قدرة حصرية على «الإفناء»، فيوقفوا بذلك تقدّمهم، ويخضعوا للهيمنة الأميركية في مراحل لاحقة.
أما السبب الثاني، فقد كان باستخدام نوعين من القنابل النووية، «الولد الصغير» و«الرجل البدين»، لتجريب فعاليتهما في الإفناء!
4- مجزرة صبرا وشاتيلا
خرجت «منظمة التحرير الفلسطينية» من بيروت صيف عام 1982، وسُحب سلاحها بضمانات أميركية ودولية بحماية المدنيين. ولكن، مساء 16 أيلول، وبذريعة الثأر لاغتيال الرئيس اللبناني المُنتخب بشير الجميّل، اقتحمت «القوات اللبنانية» مخيمي صبرا وشاتيلا، بغطاء إسرائيلي مباشر.
ويروي جوناثان راندل، مراسل صحيفة «واشنطن بوست»، في كتابه «حرب الألف سنة» بعضاً من مشاهد المجزرة التي كان شاهداً عليها قائلاً: «استخدموا في وحشيتهم القنابل اليدوية والسكاكين والفؤوس والبنادق وغيرها، وقطعوا أثداء النساء وحفروا صلباناً في الأجساد، وبقروا بطون الحوامل، وقطّعوا الأطفال إرباً. وأنا شخصياً وجدت أوصال طفل مقطعة وموضوعة حول رأسه. حتى إنهم لغّموا الكثير من الجثث حتى بات من الصعوبة مسّها أو دفنها. ذبحوا بأعصاب باردة الرجال والنساء والأطفال وحتى الخيول والكلاب والقطط. وبعد أشهر، روى لي أحد القتلة بإثارة: ‏«أطلقنا عليهم النار أمام الجدران، ذبحناهم في عتمة الليل»، ولما سألته كم شخصاً قضى نحبه في هذا الهجوم؟ أجابني مسؤوله: «ستعرف ذلك يوماً ما، إذا حفروا نفقاً للمترو في بيروت».
كان ذلك كله نتيجة تسليم السلاح في وجه أعداء متعطشين للدماء تقاطعت مصالحهم على ذبح العُزّل في المخيّم. فمن جهة «إسرائيل» ومذابحها المستمرة حتى اليوم بحقّ اللبنانيين والفلسطينيين، ‏ومن جهة «القوات اللبنانية» التي وفقاً لمجلة جيش الاحتلال الإسرائيلي الشهرية «skira Hodechitch»، أرادت حصول نزوح فلسطيني خارج بيروت ثم خارج لبنان، لخلق توازن ديموغرافي جديد فيه.
ولكن، لم ينسَ التاريخ أن يكتب أيضاً كيف تخلت إسرائيل عن القوات اللبنانية نفسها في حرب الجبل، وتركتها لمصيرها، بين قتل وتشريد.
5- سريبرينيتسا (البوسنة): «منطقة آمنة» للمذابح الجماعية
عاشت مدينة سريبرينيتسا (البوسنة)، التي يغلب على سكانها المسلمون البوشناق، لسنوات في ظل حرب البلقان الطاحنة، التي شطرَت يوغوسلافيا إلى جمهوريات تتصارع على الطائفية والعرق والدين.
ومع تصاعد المجازر ضد المسلمين في شرق البوسنة، لجأ إليها عشرات الآلاف من المدنيين العُزّل هرباً من القرى المحيطة. وفي عام 1993، أعلنت الأمم المتحدة سريبرينيتسا «منطقة آمنة»، وتعهدت بحمايتها من قوات صرب البوسنة، فأُرسلت إليها قوات هولندية صغيرة ضمن قوات «القبعات الزرق».
في تموز 1995، بدأ الجنرال راتكو ملاديتش، قائد قوات صرب البوسنة، بالتقدم نحو المدينة، واجتاحها في 11 تموز، ولكن لم تطلق القوة الهولندية رصاصة واحدة، ولا الأمم المتحدة تحركت.
وعندما دخل ملاديتش سريبرينيتسا، لم يجد مقاومة، فصافح الجنود الهولنديين، قدّم الحلوى للأطفال، وخطب أمام الكاميرات قائلاً: «أهدي هذه المدينة للشعب الصربي عشية عيدنا الكبير»!
ثم شهدت أوروبا ما بين 11 و16 تموز أكبر مجزرة بعد الحرب العالمية الثانية، إذ قُتل ما يزيد على 8000 رجل وصبي مسلم في سريبرينيتسا، بعضهم أُعدم ميدانياً، وبعضهم دُفن حيّاً. ومن حاول الفرار عبر الغابات، كان القناصون في انتظاره. وذلك كله حدث بوجود قوات دولية قريبة، تراقب دفن الجرافات الصربية للجثث في مقابر جماعية دون أن تحرّك ساكناً.
6- رواندا: مجزرة ما بعد «سلام أروشا»
في قلب القارة الإفريقية، وفي عام 1994، وقعت رواندا ضحية واحدة من أبشع المجازر التي شهدها التاريخ الحديث. إذ قُتل أكثر من 800 ألف إنسان، معظمهم من أقلية التوتسي، واغتُصبت مئات الآلاف من النساء، وعمّت البلاد مشاهد الذبح الجماعي، بالمناجل والسواطير وأدوات الزراعة.
لم تكن هذه الإبادة انفجاراً مفاجئاً، بل تتويجاً لعقود من البناء المنهجي لصراع عرقي مُفتعل. فقبل دخول الاستعمار، لم تكن الهويات «هوتو» و«توتسي» سوى توصيفات اجتماعية مرنة، دون أن تشكّل انقساماً ديموغرافياً حاداً. لكن الاستعمار، أولاً الألماني ثم البلجيكي، جعل من التوتسي طبقة حاكمة «بيولوجياً»، ومن الهوتو «غالبية خاضعة»، مستخدماً أدوات تصنيف عنصرية: شكل الأنف، الطول، وحتى قياسات الجمجمة.
ولكن بعد الاستقلال، انقلبت المعادلة حين دعم البلجيك الهوتو في السيطرة على الدولة والكنيسة والإعلام، لتبدأ حملات شيطنة التوتسي باعتبارهم «غزاة أجانب»، فتصاعدت المواجهات بين النظام الذي يقوده الهوتو، و«الجبهة الوطنية الرواندية» التي أسسها لاجئون من التوتسي في المنفى.
وبضغط دولي، وُقّعت عام 1993 اتفاقية «أروشا للسلام»، التي نصّت على تقاسم السلطة وعودة اللاجئين، ونزع سلاح الفصائل المسلحة تدريجياً.
التزمت الجبهة بنزع سلاحها، بينما أبقت الهوتو، خصوصاً «إنترا هاموي»، على سلاحها ونفوذها، وسط غض طرف دولي.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

 

Telegram