الدكتورة ليلى نقولا
أدّت الحرب الإسرائيلية على غزة إلى إعادة ترتيب أولويات السياسة الخارجية الأميركية، وتحديداً في الشرق الأوسط. وبينما كانت إدارة الرئيس بايدن تسعى لتقليص الانخراط العسكري المباشر في المنطقة، جاءت هذه الحرب لتُحدث شرخاً في مسار الاستراتيجية الأميركية الكبرى، وتفرض إعادة النظر في فرضيّات "التوازن من الخارج" التي كانت تعوّل عليها في الشرق الأوسط للتفرّغ لاحتواء التهديدات الاستراتيجية الكبرى المتأتية من الصعود الصيني المتزايد عالمياً، وللاستمرار في إنهاك روسيا واستنزافها في أوكرانيا.
وقد أدّت الحرب الإسرائيلية المستمرة في الشرق الأوسط إلى تبدّل العديد من الافتراضات في الاستراتيجية الأميركية المتّبعة منذ إعلان الرئيس باراك أوباما استراتيجية "التوجّه نحو آسيا"، وذلك على الشكل الآتي:
أولاً: فشل فرضية "القيادة من الخلف"
أظهرت الحرب في غزة محدودية سياسة "القيادة من الخلف"، التي ارتكزت على تمكين الحلفاء المحليين من تحمّل المسؤوليات الأمنية، وتخفيف العبء الأميركي المتأتي من تأمين المظلة الأمنية للحلفاء في الشرق الأوسط.
دفع هجوم حركة حماس على "إسرائيل"، وردّ الفعل الإسرائيلي بحرب شعواء تنتقل من منطقة الى أخرى في الإقليم، الأميركيين إلى إعادة الانخراط المباشر سياسياً وعسكرياً ولوجستياً في المنطقة. انخرط الأميركيون خلال فترة جو بايدن مباشرة بالحرب الإسرائيلية على غزة، وبعدها انتقلت المهمة إلى إدارة دونالد ترامب التي زادت عليها بالانخراط في ضرب إيران وشنّ حرب عليها، وهو ما لما لم تكن الإدارات السابقة تتجرّأ على فعله.
ثانياً: انكشاف الفراغ الاستراتيجي
كشفت الحرب المستمرة منذ سنتين أنّ خروج الولايات المتحدة من المنطقة سيولّد فراغاً استراتيجياً تملؤه قوى إقليمية ودولية، فالجميع بات يدرك أنه من دون الدعم الأميركي لما استطاعت "إسرائيل" أن تصمد هذه المدة، ولما حصلت كلّ هذه التطوّرات الدراماتيكية في المنطقة.
مع العلم أنّ من أحد أسباب الردّ الفعل الإسرائيلي المفرط على ما حصل في 7 أكتوبر، قد يكون رغبة إسرائيلية بإعادة الانخراط الأميركي في المنطقة، وخشية من فراغ تستغله إيران وحلفاؤها لتوسيع نفوذهم بعدما ظهر أنّ الحلفاء الإقليميين غير قادرين على ملء هذا الفراغ من دون قيادة أميركية مباشرة.
ثالثاً: هشاشة التحالفات التقليدية
قبل الحرب على غزة، وخلال السعي الغربي لعزل روسيا، رفضت الدول الخليجية السير بالعقوبات الغربية على الروس، كما رفضت زيادة إنتاج النفط، وأكدت التزامها باتفاق أوبك بلاس. كذلك، فتحت تلك الدول أبواب التعاون الاقتصادي الواسع مع الصين، التي ساهمت بتقريب وجهات النظر بين إيران والسعودية الذي أدى الى توقيع اتفاق بكين عام 2023.
بعد اندلاع الحرب في غزة، اضطرت واشنطن للعودة إلى تفعيل تحالفاتها في المنطقة بهدف احتواء تداعيات حرب الإبادة على الفلسطينيين. أعاد هذا الواقع للأذهان الدور التقليدي للولايات المتحدة كـ "شرطي المنطقة"، القادر على تأدية دور المفاوض والرادع في آن واحد.
رابعاً: صعود الرأي العام العالمي كعامل استراتيجي
أدّت الحرب على غزة الى احتجاجات غير مسبوقة في الولايات المتحدة والغرب بشكل عام، وتصاعد الانتقادات الرسمية وغير الرسمية في العالم، وتحويل "إسرائيل" إلى محكمة العدل الدولية، وصدور مذكّرات اتهام بحقّ المسؤولين الإسرائيليين في المحكمة الجنائية الدولية، وينتظر أن يكون كذلك في العديد من المحاكم الأوروبية.
أظهرت هذه التداعيات أنّ دعم "إسرائيل" من دون قيد أو شرط مكلف للولايات المتحدة وللأوروبيين. واجهت إدارة بايدن اعتراضات من قبل الجناح التقدّمي والفئات الشبابية التي تعتبر أنّ سياسة واشنطن تجاه "إسرائيل" تتناقض مع المبادئ التي تدّعي الدفاع عنها. كذلك، أدّى انخراط إدارة ترامب في مشاريع "إسرائيل" التوسّعية في الشرق الأوسط إلى ارتفاع أصوات داخل حركة "جعل أميركا عظيمة مرة أخرى" تنتقد ترامب نفسه، وتتحدّث عن جرائم "إسرائيل" بحقّ الفلسطينيين، وتدعو إلى ضرورة وقف الدعم المطلق لـ "إسرائيل".
هذه التداعيات، وإن ضرب بها المسؤولون الأميركيون حالياً عرض الحائط، لكنها تشكّل معياراً جديداً سيؤخذ بعين الاعتبار خلال تقرير السياسات حول الشرق الأوسط في المستقبل، وهو ما بدأ الأوروبيون يدركونه ويعملون به.
خامساً: غياب روسيا والصين
قبل حرب غزة، اعتبرت الولايات المتحدة أنّ الصين بدأت تنافسها فعلياً على الهيمنة في الخليج، خاصة بعد رعاية الاتفاق السعودي-الإيراني في آذار/مارس 2023، وكان يؤخذ بعين الاعتبار أنّ الروس لاعب أساسي يجب أن يؤخذ رأيه في الشرق الأوسط.
لكن مع اندلاع حرب غزة، وحتى قبل سقوط النظام السوري، امتنع كلّ من روسيا والصين عن تأدية أيّ دور حاسم في وقف النار أو إدارة الأزمة أو حلّها. وبهذا، تكون الولايات المتحدة قد استعادت دورها بوصفها القوة الوحيدة القادرة على التحرّك الفعّال، وإن جاء ذلك على حساب أولوياتها في شرق آسيا أو أوكرانيا.
في المحصّلة، أثبت حروب السنتين الماضيتين، أنّ الولايات المتحدة ليست قادرة على الانسحاب الكامل وتوكيل الأمن للحلفاء، لكنها غير راغبة في الغرق مجدداً في حروب طويلة ومكلفة في المنطقة تسمح بصعود الصين. لذلك، من المرجّح أن يقوم الأميركيون بعد انتهاء الحروب الحالية ببناء بنى أمنية واقتصادية جديدة تعتمد على الشراكات مع الحلفاء وتوكيلهم بمهام محدّدة، لكن مع بقاء القيادة الفعلية بيدهم.
فشلت تجربة "الانكفاء" وتأدية دور "الموازن الخارجي" التي بدأت مع أوباما واستمرت بعده، وبات على الأميركيين صياغة استراتيجية جديدة هجينة تجمع بين "الانخراط الانتقائي" و"الردع الموسّع"، تأخذ بعين الاعتبار التطوّرات والتداعيات التي نتجت عن حروب الشرق الأوسط.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :