الحمرا كما عاشها زياد... مسرحٌ للحياة والموسيقى والناس
تحتاج أن تكون خبيراً في أزقة شارع الحمرا في بيروت كي تستدلّ على المنازل التي سكنها الراحل زياد الرحباني. يكفي أن تصل إلى أول الحمرا، فيتحول المارّة إلى دليل لخرائط المنازل الثلاثة التي عاش فيها خلال السنوات الثلاثين الأخيرة. فقد أمضى فترات حياته في منازل بين أول الحمرا ووسطها وآخرها.
هنا وطأت قدمه الحمرا، وهناك قام بجولة على الدراجة النارية التي كان يهواها، ثم تناول الفراكة الجنوبية والبرغل على بندورة، وتحلّى «بابا روم» مع أصدقائه. كانت حياة زياد بهذه البساطة، مثل أغانيه وأعماله، من الشعب وبين الشعب وإليه. كان المارّة في الشارع يشبّهون على زياد، «بيشبه زياد الرحباني». لكن زياد كان قليل الكلام ويترك السؤال من دون جواب.
شارع الحمرا حيث شعر زياد بالطمأنينة
كان شارع الحمرا بمثابة صورة زياد الإنسان قبل أن تكون حقيقته كموسيقي ومفكر ومناضل. فالعلاقة مع الأماكن يحددها الشعور بالطمأنينة، وهذا ما حرّك زياد تجاه الحمرا. بدأت علاقته بها في ثمانينيات القرن الماضي، حين كان يتنقل مع رفيقه الراحل جوزيف صقر (1942-1997) بين المطاعم والملاهي ليقدّم حفلات في حانة chez andré وغيرها.
يومها كانت الحمرا صلة وصل اللبنانيين في الحرب، قبل أن يتم لاحقاً إغلاق تلك المطاعم، وتدخل الحمرا عصراً جديداً لم يكن زياد من محبّيه. حاول مراراً الخروج منها والسكن في مناطق عدة من بينها ضهور الشوير (قضاء المتن) وغيرها، ولكنّه لم يلمس الإحساس بالراحة، فعاد أدراجه إلى مكانه الذي اصطفى فيه استديو التسجيل الخاص به.
كلّ جلسة مع أصدقاء زياد لها طعم برائحته. لم يترك فنان أثراً جميلاً كما فعل زياد في شارع الحمرا. الصغير والكبير يعرفه، «بيحمل الشنطة وبيمشي بالشارع». بالنسبة إلى المارّة، معرفة زياد هي خير. يردّد سكان الحمرا مقولة معروفة: «من يعشق الحمرا يموت في الحمرا». وبالفعل، هذا ما حدث مع زياد، عشق الحمرا وأمضى ساعاته الأخيرة في منزله الكائن في «شارع أبو طارق».
لكن السؤال: لماذا اختار زياد الحمرا، مع العلم أنه لم يتملّك فيها منزلاً باسمه؟ ببساطة، لأنه وجد أنّ المكان يشبهه، بسيط لكنْ واسع بالانتماءات والنسيج الاجتماعي والثقافي والفكري والتنوّع والغنى الذي يحتضنه... إنّه لبنان المشتهى بطوائفه وملله ولهجاته ولغاته.
يكرّر أصدقاؤه الصفات نفسها، فدائرة أصدقائه ضيقة جداً، ولكن معارفه لا يُحصَون. زياد كتوم، لطيف مع الجيران، ويكره التقاط الصور. لكنه يقدّر الشخص الذي يعرفه على حقيقته، وليس كفنان صاحب أعمال خالدة. عليك أن تمرّ باختبار الثقة قبل أن تصبح صديق زياد. بدأت رحلتنا في شارع الحمرا من البيت الأول الذي سكنه زياد بالقرب من «مستشفى خوري». للمصادفة، كان المنزل بالقرب من مكان تشييعه الشعبي من المستشفى. سكن المنزل فترة طويلة، قبل هدمه في بداية عام 2000 لإنشاء مبنى جديد عليه. أما المنزل الثاني الذي عاش فيه، فكان فوق عصير «العنتبلي». مع العلم أنّ في المبنى الملاصق لمنزله، كان منزل والدته السيدة فيروز. رفض زياد السكن فيه، فاستأجر منزلاً متواضعاً بالقرب منه في الطابق الرابع.
في حديثه معنا، يسترجع معمّر العنتبلي، صاحب عصير «العنتبلي» بداية علاقته بزياد: «في تسعينيات القرن الماضي، جمعتني المصادفة بزياد. ومن يومها أصبحنا صديقين. سكن في منزله الثاني عام 2003 وقضى فيه أكثر من عشر سنوات. كان زياد طفلاً بجسد رجل. جميع رفاقه تأمركوا إلا هو بقي على حقيقته. أنا بائع عصير عادي، ولكن علاقتي بزياد أدخلتني في عالم الإنسان. كان عاشقاً للحلويات. في الفترة الأخيرة، واظب على تناول حلاوة الجبن».
أما «سناك فيصل»، فقد نشأت علاقة بين صاحبه وزياد خلال الحرب وبعدها. كان السناك ملاذ الفنانين اللبنانيين الذين يجتمعون على تناول لقمة طيبة. في السنوات الأخيرة، تحول الفرن إلى سناك. وعند رحيل زياد، أرسل صاحب «سناك فيصل» إكليلاً من الورد باسمه خلال تشييعه، ليثبت أنّ الزمن لا ينسى المكان الذي وطأته قدم زياد. أما «جنينة الصنائع»، فكانت مخزن ذكريات زياد في طفولته ومراهقته، فقد كانت الجنينة المكان السرّي الذي كان يهرب إليه زياد من مدرسة «الجمهور» ليقضي وقته يؤلف ويكتب.
المحطة الثالثة للتعرّف إلى منزل زياد، قادتنا إلى آخر نقطة في رحلته في الحمرا حيث لفظ أنفاسه الأخيرة. كان يخرج يومياً لشراء الحاجيات اليومية، ثم يلقي التحية على العاملين في «استديو ناجي» لرفيقه عدنان ناجي، الذي يحتفظ بأرشيف غني من الصور والفيديوهات لمسرحيات زياد وحفلات فيروز.
«زر» زياد الرحباني
بعد مهمات طويلة، وصلنا إلى مبنى زياد الأخير. لكن لا دليل على أنه يسكن فيه. في علبة «الانترفون»، لا يوجد اسم زياد الرحباني، بل عليك أن تكون من أقرب أصدقائه لتعرف في أي طابق يقطن. تلفتك عبارة «زر». يحب زياد السخرية حتى من نفسه، ويغرق في التفاصيل الصغيرة كعبارة «زر» التي تختصر اسمه.
المبنى، تدخل جارته وتجد الكاميرا على المدخل، فتبدأ بالكلام: «هلأ تذكرتوا زياد؟ ما حدا قدم له وردة وقت كان مريض. أنا جبْت له وردة لزياد». يدخل مأمون الناطور، العامل البنغلادشي في المبنى، على خط الحديث عن زياد، قائلاً: «لم يزره في أيامه الأخيرة إلا قلّة من أصدقائه. كان قليل الكلام، وكان أحمد مدلج رفيق رحلته يقوم بجميع المهمات. في الفترة الأخيرة، كانت السيدة فيروز تزور ابنها زياد في منزله مساء كل سبت وتقضي ساعات برفقته». ويتابع مأمون كلامه: «لم تُجب فيروز يوماً عن سؤال «كيفك ستنا؟»، كانت تكتفي بإيماءة رأسها فقط. نهار السبت الماضي، أي يوم رحيل زياد، طلب مني أحمد مدلج أن أساعده في نقل الراحل إلى السيارة بعدما تدهور وضعه الصحي. كان زياد صامتاً. بعد ساعات، وعندما علا الصراخ في البناية، عرفت أنّ زياد قد توفي».
يومياته، كان زياد لا يشرب القهوة، على عكس العرف السائد بأنّ المدخن يحب القهوة. خالف القواعد في كل شيء. علاقته مع السيجارة لا يُعرف متى بدأت. يكفي أن أصدقاءه يجمعون على عبارة: «شو كان يدخن زياد كنا ندخن متله. البداية كانت مع علبة Merit، فدخنّا معه النوع نفسه. ثم انتقل إلى Cedars فتبعناه».
في السنوات العشر الأخيرة، كان مطعم «البارومتر» لصاحبه الممثل والمغني ربيع الزهر، ملاذ زياد. يتناول البطاطا الحرّة والفراكة والحمص بطحينة والمربّى مع الزبدة. هذا المكان ذو خصوصية في حياة الراحل، بعدما قرّر مقاطعة غالبية الأماكن على إثر اندلاع «الثورة» السورية. كانت الأماكن التي يرتادها تُعدّ على أصابع اليد الواحدة. تباعاً، بدأت حياة زياد تدخل النفق، ليقضي معظم وقته المتبقّي في المنزل.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp
تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram
(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)
:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي