في السياسة، لا تكفي مراقبة الأحداث لفهم مساراتها، بل يتطلّب الأمر العودة إلى أبجدياتها الأولى.
وأبجدية السياسة تبدأ بالمفاوضات؛ اللغة التي تتحدّث بها القوى، إذ تتقاطع مصالحها أو تتصادم. إلا أن المفاوضات ليست ساحةً للأماني ولا للأخلاق المجرّدة، إنما محكومة بميزان واحد: ميزان القوى.
فالطرف المالك لأوراق القوّة على الطاولة هو القادر على تحديد موقعه: رافضاً للشروط، أو قابلاً بها، أو فارضاً لشروطه إن رجحت كفّته. بين هذه الاحتمالات تتحرّك السياسة، حيث تتجسّد القوة لا بما يُقال في الخطابات، بل بما يُترجم عملياً في القدرة على فرض الإرادة أو حماية المصالح.
لماذا هذه المقدّمة؟ يكثر الحديث الإعلامي في الأشهر الماضية عن زيارات توم برّاك إلى بيروت لإجراء مفاوضات لتثبيت وقف إطلاق النار مع العدو الإسرائيلي.
غير أنّ هذه المفاوضات تجري تحت نار الاستهدافات الإسرائيلية شبه اليومية التي تطاول عناصر وكوادر المقاومة الإسلامية.
هذه الاستهدافات ليست مجرد عمليات عسكرية، بل رسالة سياسية واضحة: تغييرٌ في موازين القوى بعد الضربة الإسرائيلية الأخيرة، التي مكّنت تل أبيب من فرض بعض شروطها وتحويل إنجازها العسكري إلى ورقة تفاوضية.
إلى جانب التهديد الإسرائيلي، يواجه لبنان خطراً وجودياً: الفوضى السورية. ما يجري في سوريا اليوم لا يمكن اعتباره مخاضاً لنظام جديد؛ إذ لم يعد فيها ما يشبه الدولة بالمعنى المؤسساتي.
المشهد السوري تحوّل إلى خليط من فصائل وقبائل وطوائف وعشائر، إضافةً إلى مرتزقة دوليين وجماعات متطرّفة، تتحرّك جميعها وفق أهواء المشغّلين الدوليين.
والنتيجة: فوضى شاملة، توزّع العنف في كل اتجاه ما عدا اتجاه واحد هو إسرائيل، التي تستبيح الأجواء والأراضي السورية بلا أيّ رادع.
هكذا يجد لبنان نفسه محاصراً: عدو متربّص جنوباً يحاول فرض شروطه بالقوّة والمفاوضات معاً، فوضى ومجازر شرقاً وشمالاً تهدّد بالتمدّد نحو الداخل اللبناني، وبحرٌ بلا أفق غرباً لا يقدّم مهرباً من الجغرافيا السياسية الخانقة.
أمام هذه الأخطار، موقع لبنان التفاوضي ليس قوياً. والتهديدات ليست الاحتلال أو التطبيع أو التقسيم فحسب، بل كذلك النموذج السوري الذي يبدو أنّه النموذج المفضّل لدى الغرب.
الغاية لم تعد تطبيعاً بين دولة ودولة، كما كانت عليه المقاربات التقليدية؛ الدليل الأوضح هو سوريا التي تستجدي التطبيع ولا تناله.
المطلوب اليوم، من وجهة نظر القوى الغربية، ليس دولاً طبيعية بل كيانات شبيهة ببلديات كبرى تتسم بالصفات التالية: غارقة في الفوضى والتقاتل، تابعة بالكامل للنفوذ الإسرائيلي، غير قادرة على بناء دولة مهما طال الزمن، ولا يشكّل التطبيع معها أولوية حتى بوجوده أو غيابه.
حتى التلويح الأميركي بعودة لبنان إلى «بلاد الشام» لا يعني عودة إلى فضاء اقتصادي متماسك ودولة قوية، بل دخولاً تدريجياً إلى الفوضى الشاملة في سوريا.
أمام هذه التهديدات المتشابكة جنوباً وشرقاً وشمالاً، وأمام واقعٍ دولي لا يحمي إلا الأقوياء، يصبح من الضروري أن يمتلك لبنان مشروعاً سياسياً وطنياً متكاملاً يقوم على قاعدة واضحة: استثمار كل عوامل القوة المتاحة
إذاً، ما العمل؟ على الرغم من أنّ لبنان محاصر بالأخطار، إلا أنه ليس في صحراء خالية من أوراق القوّة.
لنرجع قليلاً إلى الوراء: لقد استفاد لبنان ــــــ كل لبنان، مَن هم ضد سلاح المقاومة ومَن هم معه ــــــ من 18 عاماً من الاستقرار الأمني وانحسار الاعتداءات الإسرائيلية.
وكان السلاح يومها ورقة القوة الأساسية والرادع للعدوان.
للأسف، جيشنا مكشوف بشكل شبه كامل وهو لا يستطيع فعل شيء في وجه جيشٍ كالذي لدى إسرائيل.
أمّا المقاومة، فإنّ الضربة التي تلقّتها كانت كبيرة، وهي بالتالي ليست في أفضل حالاتها، إلا أنها في حال الاجتياح البرّي تستطيع تكبيد العدو الخسائر، وهذه ورقة قوة نستفيد منها، لا تمنع الغارات الجوية أو الاعتداءات، ولكن بالحد الأدنى تمنع الاحتلال على شكل ما قبل عام 2000.
وتعزّز هذه القدرةَ طبيعةُ لبنان الجغرافية والسكانية؛ فالجنوب والبقاع، بجبالهما ووديانهما وكثافة بلداتهما، يجعلان أي احتلال برّي مكلفاً لإسرائيل، فيما أثبت المجتمع المحلي أنّه قادر، رغم الانقسامات، على امتصاص الصدمات الأولية في الأزمات الكبرى.
كما يشكّل التوازن الداخلي، الهشّ ولكن القائم، ورقةَ قوّة إضافية، إذ لم ينفجر لبنان حتى الآن إلى حرب أهلية شاملة كما حدث في سوريا، وهو تماسكٌ يمكن استثماره سياسياً إن وُجِّه بحكمة.
وأخيراً، يظلّ لبنان يمتلك ورقة الشرعية الدولية المشروطة؛ فرغم أنّ الضمانات غالباً حبر على ورق، إلّا أنّها تقيّد إسرائيل سياسياً وتمنعها من فرض احتلال طويل الأمد بلا كلفة دولية كبيرة.
أمام هذه التهديدات المتشابكة جنوباً وشرقاً وشمالاً، وأمام واقعٍ دولي لا يحمي إلا الأقوياء، يصبح من الضروري أن يمتلك لبنان مشروعاً سياسياً وطنياً متكاملاً يقوم على قاعدة واضحة: استثمار كل عوامل القوة المتاحة بدل التفريط بها.
في مقدّمة هذه العوامل يأتي سلاح المقاومة، ليس كترفٍ أو خيارٍ أيديولوجي، بل كحاجة وجودية، لأنّ مَن يسلّم سلاحه في هذه الظروف، وأمام هذا الإجرام الإسرائيلي والفوضى الإقليمية، سيُذبح حتماً، بلا أي حماية دولية حقيقية.
المطلوب ليس الاكتفاء بالدفاع العسكري، بل بناء مشروع وطني يقوم على:
1. تحصين الجبهة الداخلية ومنع الانزلاق إلى الفوضى السورية.
2. دمج أوراق القوّة العسكرية والسياسية في استراتيجية تفاوض متماسكة، حيث يكون السلاح رادعاً قدر المستطاع والموقف السياسي حامياً كذلك قدر المستطاع.
3. رفض أي حلول دولية شكليّة لا تراعي مصالح لبنان، مع الاعتماد على التوازنات الواقعية وليس الوعود الورقية.
إنّ بقاء لبنان موحّداً وقادراً على حماية نفسه لا يمرّ عبر نزع أوراق قوّته، بل عبر إدارة هذه الأوراق بعقلانية ضمن مشروع سياسي وطني شامل، يمنع سقوطه في الفوضى.
هذه مسؤولية القوى السياسية جميعها.
أمَّا من يريد الرهان على الأميركي في المنطقة، فسيُذبح قبل غيره. ولكم في مَن سبقوكم أسوة حسنة.
نسخ الرابط :