حتّى لحظة كتابة هذا المقال، كانت نسبة الهبوط في أسعار الأسهم الأميركيّة، منذ يوم الأربعاء الماضي، تكفي لوصف المشهد كأحد أكبر 15 انهيارًا شهدته البورصة في الولايات المتحدة. وفي ختام تداولات يوم الجمعة، كانت سجّلت أسعار النفط انخفاضًا بنسبة 7 بالمئة، لتصل إلى أدنى مستوى لها منذ ثلاث سنوات على أقل تقدير. وفي لندن، كان مؤشّر البورصة الرئيسي قد هبط إلى أقل مستوى له، منذ تفشّي وباء كورونا عام 2020. بهذه الأرقام، كانت أسواق المال، بما فيها الأميركيّة، تعبّر بطريقتها عن التوجّس من عاقبة ما سمّاه الرئيس الأميركي دونالد ترامب “يومًا للتحرير”، بعد الرسوم الجمركيّة الشاملة. ثمّة عالم آخر سنذهب إليه، ولا يبدو أنّ السوق ستحبّه.
كان المشهد يوم الأربعاء شديد السورياليّة، كما أشارت عن حق وكالة بلومبيرغ. لقد عرف التاريخ سابقًا خطابات سياسيّة أثارت حفيظة السوق والمستثمرين، بهذا الشكل. غير أنّ هذه الخطابات التعيسة كانت تأتي -في السابق- في سياق التعامل مع أزمات اقتصاديّة وماليّة قائمة بالفعل، من دون أن تطمئن السوق إزاء ما يجري. لكن ما جرى يوم الأربعاء كان مختلفًا: لقد كانت كلمة ترامب نفسها هي شرارة الأزمة. وحين تهبط أسعار الأسهم والنفط، وتضطرب البورصات على النحو، فذلك لا يوحي بأن المستثمرين يرون الكثير من التبعات الاقتصاديّة المبهرة جرّاء خطوة ترامب. في نهاية الأمر، السوق تعبّر عن نفسها هكذا.
الخفّة في اتخاذ القرار
لم يكن مشهد ترامب ولائحة الرسوم الجمركيّة التي حملها، يوم الأربعاء الماضي، يعبّر عن الكثير من الحكمة والدراية. ولا تقتصر المسألة على رأي الأسواق بالحروب التجاريّة والرسوم الجمركيّة عامّةً، بل تطال حتّى كيفيّة اتخاذ هذا القرار. اللائحة التي حملها ترامب في “يوم التحرير”، تزعم أنّ كوريا الجنوبيّة مثلًا تفرض رسومًا بقيمة 50% على سلع الولايات المتحدة الأميركيّة، في حين أن هناك اتفاقيّة تجارة حرّة تجمع ما بين البلدين. وبالمثل، تزعم اللائحة أنّ الاتحاد الأوروبي يفرض نسبة هستيريّة توازي 39% على السلع الأميركيّة، وهو ما يبتعد بالتأكيد عن الدقّة. وهكذا، انشغلت الأسواق يوم الأربعاء بمحاولة فهم الأرقام الغريبة، التي اتخذ ترامب على أساسها قراره.
في النهاية، تم فهم الأمر. لقد قام فريق ترامب باعتماد معادلة، تحتسب قيمة الصادرات والواردات بين الولايات المتحدة وكل دولة من دول العالم. ثم استندوا على هذه المعادلة، أو النسبة التي تُنتجها، لافتراض نسبة “الرسوم الجائرة” المفروضة على السلع الأميركيّة، من قبل الدول الأخرى. وعلى أساس هذه الرسوم المزعومة، قرّر ترامب فرض رسوم جمركيّة انتقاميّة مضادّة، من جانب الولايات المتحدة، ضد الجميع، كل الآخرين. وهكذا، حفلت وسائل التواصل الاجتماعي بالتعليقات التي تفنّد المعادلة الغريبة، التي بنى على أساسها ترامب مزاعم وجود رسوم جائرة ضد بلاده، ليبرّر حربه التجاريّة.
ثم تبيّن أن فريق ترامب استخرج من الإنترنت لائحةً بجميع الدول ومناطق الحكم الذاتي وممتلكات ما وراء البحار، وطبّق عليها هذه المعادلة الغريبة. وهنا يمكن يفهم بعض الظواهر الغريبة في لائحة ترامب، التي أوردت ذكر جزيرة لا تقطنها سوى طيور البطريق، أو بعض الجزر الشديدة الفقر التي يعمل فيها بضعة آلاف من المساكين في استخراج المواد الأوليّة، وتصديرها إلى الولايات المتحدة الأميركيّة. وبذلك، اعتبرت اللائحة أن طيور البطريق، أو الفقراء الذين يؤمّنون المواد الأوليّة للصناعات الأميركيّة، لا فرق، يشنّون حربًا تجاريّة على بلاد ترامب، لأنّهم لا يستوردون بما فيه الكفاية من الولايات المتحدة مقابل صادراتهم.
لا تحب الأسواق الخفّة في التعامل بهذا النوع من القرارات الحاسمة. وهي تكره أكثر عدم اليقين، والتوتّر المسعور في صنع السياسات العامّة. وإذا كان هناك ما طبع قرارات ترامب الأخيرة، فهو الخفّة والتسرّع وعدم اليقين. وثمّة من حاول الدفاع عن هذه القرارات، بالقول أنّ ثمّة رؤية اقتصاديّة وتحوّل تجاري أكبر يقوده ترامب، بمعزل عن طريقة اتخاذ القرار. لكنّ تفنيد تداعيات القرار، لا يمكن أن تنبئ بأي رؤية أوسع أفقًا مما بدا للمستثمرين.
ماذا يريد ترامب؟
يحلو للبعض تبرير ما جرى بحسنات السياسة الحمائيّة: بعد هذه القرارات، ستغلو السلع والخدمات المستوردة إلى الولايات المتحدة، قياسًا بالإنتاج المحلّي منها. وبمعزل عن التداعيات السيئة على المدى القصير، ثمّة فرص واعدة في المستقبل، على شكل خلقٍ لفرص العمل، وتنميةٍ للصناعات المحليّة.
إلا أنّ هذه الرؤية، ما زالت محكومة بنظرة ماركنتيليّة متخلّفة للتجارة الدوليّة، وهي رؤية موروثة من قرون غابرة سبقت فتح الأسواق وتطوّر سلاسل التوريد. ما يُنتج اليوم في الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة أو الصين، من سلع تكنولوجيّة أو صناعات ثقيلة، يدخل في تركيبته مكوّنات صنعت أصلًا في دول أخرى. وتتعقّد سلاسل التوريد بين الدول والتكتلات الصناعيّة، ليصح القول أن السيارة التي تخرج كمنتج نهائي في ألمانيا مثلًا، تُصنع على مراحل عبر إنتاج مكوّناتها في مئات المصانع الأخرى المنتشرة حول أنحاء العالم.
هنا يمكن فهم ما جرى مع شركة آبل الأميركيّة بعد قرارات ترامب. حيث خسرت الشركة 9%، أو 300 مليار دولار، من قيمة أسهمها. ويمكن سريعًا تفنيد الأسباب: قرّر ترامب فرض رسوم جمركيّة على الدول التي تنتج مكونات آبل، بنسبة 54% للصين، و46% لفيتنام، و26% للهند. كانت آبل أساسًا قد دخلت في سياق العمل لتخفيف اعتمادها على الصين، لتصنيع مكوناتها، بمعزل عن رسوم ترامب الجديدة. غير أن ضرب الأسواق الثلاث معًا بهذه الرسوم، سيرفع من كلفة إنتاج هواتف الشركة، وهو ما سيرجّح كفّة منافسيها، مثل هواوي وسامسونغ، الذين يخوضون أصلًا معركة رفع حصّتهم من سوق الهواتف الذكيّة.
إذًا، المسألة ليست بالبساطة التي يتحدّث عنها ترامب. وصورة الولايات المتحدة الغاضبة والموتورة، التي يقدّمها البيت الأبيض اليوم، تقابلها صورة الاتحاد الأوروبي المتأنّي في وضع سياساته التجاريّة. وصورة الرئيس الأميركي الناقم على المؤسّسات غير المنتخبة في الولايات المتحدة، وعلى قواعد “حكم القانون” التي تقيّده، تقابلها صورة الاتحاد الأكثر تماسكًا على هذا المستوى. وهنا يمكن فهم مشهد آخر: مؤشّرات أسواق الأسهم الأوروبيّة تفوّقت في أدائها على مثيلتها في الولايات المتحدة الأميركيّة، بعدم سنوات طويلة من عدم التكافؤ بين السوقين لمصلحة السوق الأميركيّة.
في المقابل، جاء من يبرّر هذه القرارات بالقول أنّها خطوة تفاوضيّة، ستسبق التفاهم مع كل دولة على سياسات تعيد التوازن إلى تجارتها مع الولايات المتحدة الأميركيّة. غير أنّ طبيعة القرارات، العشوائيّة والشموليّة، لا تسمح بفهم خطوة ترامب على هذا المنحى. فهي لم تستهدف دولًا بعينها، وفقًا لأهداف مسبقة حددتها إدارة ترامب، كما لم تميّز بحسب طبيعة السلع المستوردة، أو بحسب إمكانيّة استخدامها كمواد أوليّة في صناعات معيّنة. ما الذي تريده الولايات المتحدة مثلًا من جزيرة مدغشقر النائية والفقيرة، التي تقتصر تجارتها مع الولايات المتحدة على تصدير مادّة الفانيليا، التي لا يمكن إنتاجها -بسببا الظروف المناخيّة- في الولايات المتحدة نفسها؟
وفي الوقت نفسه، ثمّة سؤال آخر يفرض نفسه. لقد سعت الشركات الأميركيّة إلى نقل بعض مراحل إنتاج سلعها إلى الخارج، للاستعانة بالعمالة الآسيويّة المنخفضة الأجر، للقيام بالعمل الشاق والمضني. هل تتناسب هذه الوظائف، التي يسعى ترامب لنقلها إلى داخل الولايات المتحدة، مع طبيعة القوّة العاملة الأميركيّة وطموحاتها؟ الأرقام والدراسات لا توحي بذلك.
في الخلاصة، يبدو الأثر الأكثر حتميّة لما جرى، هو قلب بنية النظام الضريبي داخل الولايات المتحدة الأميركيّة. هنا، ثمّة فلسفة ترتبط بالتجارة الدوليّة طبعًا، وعداء لمفاهيم فتح الأسواق والتبادل الحر للسلع. لكنّ شيئًا ما في كل ما جرى لا يوحي أنّ القرارات ستترك أثرًا سريعًا وإيجابيًا على القطاعات الصناعيّة الأميركيّة. النتيجة المؤكدة، هي زيادة إيرادات الحكومة الأميركيّة من الضرائب غير المباشرة، التي تطال المستهلك في السوق، وهو ما سيترك حيّزًا لتخفيف الضريبة المباشرة، التي تطال كبار الأثرياء أكثر من غيرهم.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :