على مدى العقود الماضية، واجهت الحكومة اللبنانية انتقادات متزايدة لعدم قدرتها على إدارة الأموال العامة بشفافية وفعالية. أدى مزيج من الفساد المستشري والدين العام غير المستدام والسياسات الضريبية غير العادلة إلى استنزاف الموارد وتآكل ثقة الجمهور. لقد ترك سوء الإدارة على كل المستويات - الذي تفاقم بسبب الشلل السياسي والمصالح الخاصة - المواطنين يتحملون العبء الأكبر من عدم الاستقرار المالي، وتدهور الخدمات العامة، والمصاعب الاقتصادية.
أدّت هذه التحديات إلى تفاقم الفجوة بين الدولة وشعبها، مما أدّى إلى تقويض العقد الاجتماعي وزيادة الدعوات إلى الإصلاح. ومع ذلك، في خضم هذه الاضطرابات تكمن فرصة: الفرصة لإعادة بناء الثقة من خلال معالجة الأسباب الجذرية لعدم كفاءة المالية العامة وصياغة نظام عادل وفعال على حد سواء.
جمعت كلية سليمان العليان لإدارة الأعمال (OSB) في الجامعة الأميركية في بيروت (AUB)، في 23 كانون الثاني 2025، خبراء وقادة فكر في جلسة حوارية لمواجهة هذه القضايا الملحة وجهاً لوجه. واستكشف الحدث إصلاحات قابلة للتنفيذ لسد الفجوة بين السياسة وثقة الجمهور، مما يمهد الطريق لمستقبل أكثر إشراقاً وشمولية.
يواجه النظام الضريبي في لبنان تحديات عميقة الجذور أدت إلى تآكل ثقة المواطن وعرقلة الاستقرار المالي وتفاقم عدم المساواة. القضايا الإشكالية الرئيسية التي تم تحديدها خلال المناقشة هي:
● عدم المساواة في النظام الضريبي.
● تفشي الفساد وغياب الحوكمة.
● تعدد أوجه القصور الإدارية.
● التشريعات الضريبية القديمة.
● انعدام ثقة المواطن، وفشل النظام في تعزيز الشعور بـ "المواطنة الضريبية" - Tax Citizenship.
● نمو الاقتصاد النقدي الذي يقوض قدرة الحكومة على فرض سياسات ضريبية فعالة.
تركّز الأهداف الشاملة لإصلاح النظام الضريبي في لبنان على تعزيز الإنصاف ودعم الكفاءة وضمان الاستدامة. يعد النظام الضريبي العادل والمنصف أمراً ضرورياً لتعزيز العدالة الإجتماعية ودفع النمو الاقتصادي. إن تحديث الإدارة الضريبية أمر بالغ الأهمية بنفس القدر، لأنه يحسن الكفاءة والشفافية والمساءلة - وهي عوامل رئيسية في إعادة بناء ثقة المواطن. يعد تعزيز الامتثال من خلال آليات إنفاذ أكثر صرامة واستعادة ثقة المواطنين أمراً أساسياً لاستعادة سلامة النظام. وأخيراً، يعد توسيع القاعدة الضريبية ضرورياً لتقليل الاعتماد على الضرائب التنازلية وإنشاء إطار مستدام لتوليد الإيرادات يلهم الثقة بين دافعي الضرائب. يمهد هذا الأساس الطريق للتوصيات التي قدمها المتحدثون والمشاركون في هذا اللقاء الذي نظمته كلية سليمان العليان لإدارة الأعمال (OSB )، ويقدم إصلاحات قابلة للتنفيذ لمواجهة التحديات الضريبية في لبنان وإعادة بناء نظامه المالي.
توسيع القاعدة الضريبية
يتطلب إصلاح النظام الضريبي في لبنان معالجة الاقتصاد غير الرسمي، الذي يمثل اليوم جزءاً كبيراً من النشاط الاقتصادي. وينبغي بذل الجهود لإدماج القطاع غير الرسمي من خلال برامج مستهدفة مع تبسيط عمليات التسجيل لتشجيع الامتثال الطوعي وتعزيز الثقة في النظام. يمكن للحوافز الموقتة أن تزيد من تسهيل هذا التحول. بالإضافة إلى ذلك، يعدّ إدخال أرقام التعريف الضريبي (Tax Identification Number - TIN) لجميع المقيمين، بما في ذلك الرعايا الأجانب، أمراً حيوياً لتحسين الشفافية والمساءلة، وكلاهما ضروري لبناء ثقة دافعي الضرائب. يجب فرض العقوبات المالية على عدم الامتثال بشكل صارم لإظهار الإنصاف وإعادة بناء الثقة في الإنفاذ. ولزيادة تعزيز المساءلة العامة، ينبغي أن تستهدف التدابير أيضا عوامل تمكين التهرب الضريبي، بما في ذلك المدققون والمستشارون القانونيون الذين يسهلون عدم الامتثال. إن طمأنة المواطنين إلى أن الجميع ملتزمون بنفس المعيار سيقطع شوطاً طويلاً في استعادة الثقة.
تحديث إدارة الضرائب
يعدّ تحديث الإدارة الضريبية جزءاً لا يتجزأ من تحسين النظام المالي في لبنان وإعادة بناء الثقة في عملياته. يجب أن تلعب المكننة (الحكومة الإلكترونية) دوراً مركزياً، مع تنفيذ أنظمة الإقرارات الإلكترونية والدفع الإلكتروني لتبسيط عمليات الإيداع الضريبي والدفع. يمكن أن تؤدي الاستفادة من التقنيات المتقدمة مثل الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence - AI) و blockchain إلى تعزيز الكفاءة من خلال اكتشاف الاحتيال والتحقق من الإعلانات وأتمتة المهام الروتينية (الاعتماد على الآلات في أداء المهام التي كان يكلف فيها موظفون عاديون)، مما يخلق نظاماً شفافاً يمكن لدافعي الضرائب الوثوق به.
كما أن سجلات الملكية المستفيدة (صاحب الحق الاقتصادي) ضرورية لتحديد الأفراد الذين يسيطرون في نهاية المطاف على الكيانات، مما يقلل من فرص التهرب. يجب دعم هذه السجلات بآليات رقابة قوية لضمان الامتثال للمعايير الدولية لمكافحة غسل الأموال وبناء الثقة في قدرة الحكومة على فرض الممارسات المنصفة. علاوة على ذلك، إن تحسين عملية تسوية المنازعات أمر ضروري لتعزيز العدالة والثقة في النظام الضريبي. يمكن أن يساعد إنشاء آليات شفافة وفعالة لحل النزاعات الضريبية وتوحيد الإجراءات في إعادة بناء ثقة دافعي الضرائب وتقليل التأخير.
تعزيز العدالة الضريبية
يتمثل حجر الزاوية في إصلاح النظام الضريبي في لبنان في تعزيز العدالة وإعادة بناء الثقة في تطبيقه العادل. يمكن أن يضمن إدخال نظام عام لضريبة الدخل الشخصي يدمج مصادر الدخل المختلفة في إطار موحد لتحصيل الإيرادات بشكل عادل مع طمأنة دافعي الضرائب بأن مساهماتهم يتم تقييمها بشكل عادل. وينبغي تصميم الأقواس الضريبية التصاعدية لمواءمة المساهمات مع القدرة المالية لدافعي الضرائب، وتعزيز الإنصاف المالي والثقة في النظام.
كما أن القضاء على السياسات التي تأتي بنتائج عكسية مثل التخفيضات الضريبية والعفو الذي يكافئ عدم الامتثال أمر بالغ الأهمية لإعادة بناء الثقة. بدلاً من ذلك، يجب أن تركز الإصلاحات على حوافز الامتثال طويلة الأجل وتدابير الإنفاذ القوية التي تظهر العدالة. علاوة على ذلك، يمكن إدخال ضرائب مخصصة وهادفة، مثل ضرائب الخطيئة (Sin Taxes) أو ضرائب الشواغر (Vacancy Taxes)، لتمويل خدمات عامة محددة مثل شبكات الأمان الاجتماعي ومشاريع البنية التحتية. من خلال الربط الواضح بين عائدات الضرائب والمنفعة العامة، يمكن للحكومة أن تعزز قدراً أكبر من الثقة بين دافعي الضرائب.
معالجة الفساد وتحسين المساءلة
إن التصدّي للفساد والتدخل السياسي شرط أساسي لاستعادة الثقة في النظام الضريبي في لبنان. وينبغي أن تشمل تدابير مكافحة الفساد إنشاء هيئات رقابة مستقلة لرصد إدارة الضرائب وتخصيص الإيرادات. يعدّ الإبلاغ العام المنتظم عن تحصيل الضرائب والإنفاق أمراً ضرورياً لتعزيز الشفافية وإعادة بناء الثقة في إدارة الحكومة للأموال العامة.
لمعالجة التدخل السياسي، يجب تطوير قواعد صارمة لتضارب المصالح وإنفاذها على الشخصيات السياسية. إن تمكين المؤسسات المستقلة أمر بالغ الأهمية لضمان حماية جهود الإصلاح من المصالح الخاصة وبث الثقة في تنفيذها.
وشدّد المشاركون (المتحدثون والحضور) في هذا اللقاء الحواري على أهمية الحوار الوطني الذي يشارك فيه جميع أصحاب المصلحة (Stakeholder) - الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني. وتعد الحوكمة الشفافة والاستقرار السياسي والمساءلة المالية أمراً بالغ الأهمية لاستعادة ثقة المواطن ودفع عجلة التعافي الاقتصادي.
من خلال تبنّي هذه الإصلاحات، يمكن للبنان تحويل نظامه الضريبي إلى حجر الزاوية في الاستقرار المالي والعدالة الاجتماعية والمرونة الاقتصادية.
في الختام، كان هناك اتفاق على تسليط الضوء على الأهمية الحاسمة لترجمة مناقشات اللقاء إلى إصلاحات قابلة للتنفيذ. وكان هناك تشديد على أن النظام الضريبي العادل والشفاف هو حجر الزاوية لإعادة بناء الثقة وتعزيز العدالة الاجتماعية وضمان الانتعاش الاقتصادي في لبنان. كما كان هناك تأكيد على دور الأوساط الأكاديمية، وخاصة كلية سليمان العليان لإدارة الأعمال (OSB)، في سد الفجوات وتعزيز الحوار وقيادة الحلول التي تتماشى مع تطلعات الشعب اللبناني. وأكد المجتمعون دعوتهم إلى العمل على المسؤولية الجماعية لجميع أصحاب المصلحة للعمل معاً من أجل مستقبل أكثر إشراقاً وإنصافاً للبنان.
(*)باحث في كلية سليمان العليان لإدارة الأعمال (OSB) في الجامعة الأميركية في بيروت (AUB)
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :