محمد حماد
بسقوط جمهوريّة الأسد يُسْدل السّتار على عَصْرِ الجُمهوريّات العربيّة الأمنيّة العسكريّة، العَصْرُ الّذي شَهِد تحوّل تلك الأنظمة إلى ديكتاتوريّات يسودُها الفساد، وتتحكّم فيها العائلَة الحاكمَة، حتى انتهى الأمر في أربع "جمهوريّات" عربيّة إلى فكرة "توريث الحُكْم" في سابقةٍ لم تُعرف إلّا في جمهوريّة كوريا الشّماليّة "الشّقيقة" (!).
حان موعد دولة المُواطَنَة والتّنميَة وتَداوُل السّلطة
عبْر أربع عشرة سنة بقيَت سوريا تحت حكمِ جثّة نِظام تحلّلت، تستدْعي المُتَطوّعين، أو المُغامرين، أو أصحاب المصالح للإسراع بدفنِها. لم يكُن نظام الأسد الأب قادرًا على الاستمرار تحت حكْم ابنِه الذي جاءت به الصّدفة ليخلفَه أكثر من عشر سنوات مدّت في عمْر النّظام بعوامل الدّفع الذّاتي، ولكن بعد 2011 كان بقاء نظام بشّار فوق احتمال الحقائِق، وبالتّناقض مع قواعد اللّعبة السّياسيّة عينها.
كلّ حكمٍ عسكري أمني في الجُمهوريّات العربيّة انتهى إلى مأساةٍ مُزْدوجَة
الجمهوريّات العربيّة التّسع يجمعُها أنّها جميعها حُكِمت طويلًا بنُظمِ حكْمٍ عسكريّة أمنيّة رفَعت المُنتسبين إلى الجيش والقوى الأمنيّة طبقةً فوق كل الطّبقات، فضّلتهم بامتيازاتٍ حصرًا عليهم، حتى صار الالتحاق بالجيش أسرع طريقة للترقّي الطّبقي والاجتماعي.
تحوّل جيشُ الوطن من وظائفِه الأصليّة إلى وظيفةٍ فرعيّة هي حمايةُ النّظام، والحفاظُ على مصالحِه وامتيازاتِه، وفي لحظة مواجهة الحقيقة المُرَّة يتداعى النّظام من دون أنْ يحميَه جيشه، الذي لم يعدْ مؤهّلًا للدّفاع عن الوطن.
كلّ حكمٍ عسكري أمني في الجُمهوريّات العربيّة انتهى إلى مأساةٍ مُزْدوجَة، انهيار النّظام الحاكم، وتهديد مُستقبل تلك الجمهوريّات كدولٍ فاعلة، ومن ثمَّ تتحوّل إلى دولٍ فاشلة ممزّقة بين تدخّلات أجنبيّة متصارِعة تُحرّكها مصالح المتدخّلين ومخطّطاتهم.
لم تقتصر نهاية الأنظمة العسكريّة الأمنيّة على سقوط النّظام وحده، الأسوأ أنّها أدّت إلى الإطاحة بالجيوش الوطنيّة، ما ترك الدّولة في عراءٍ بلا حماية تذود عنها، وعرَّضها لكلّ تدخّل من كلّ الجهات، وخلَق ظاهرةَ الدّولة متعدّدة الاحتلالات، وصارت مساحتُها الجُغرافيّة نهبًا لكلّ طامع، ومَرْتَعًا لمصالح تتعارك على أرضِها وثرواتِها ومقدّراتِها.
انهيار الجُمهوريّات العسكريّة جمع بين سقوط الأنظمة من ناحية، ومن ناحية ثانية رهن مستقبل تلك الدّول إلى المجهول.
سوريا أحدث الجمهوريّات السّاقطة، وليست آخرها، تُظهِر نموذجًا صارِخًا على تلك النّهايات الكارِثيّة فوق أي تصوّر، وأبشع من أي توقُّع لدى أكثر المتشائِمين بمستقبلِها على المدى المنظور على الأقلّ.
درْس تلك الحِقْبَة التي أنتجت هؤلاء الطّغاة المُستبِدّين، أنّ هذه الأمّة لا بدّ لها أنْ تأخذ درسًا في إعلاء قيمة الإنسان كإنسان، أيًّا كان جنسه أو عِرقه أو معتقده، أنْ تتقن قيمة المُشاركة الشّعبيّة في صناعة القرار الوطني، وأنْ تُعظِّم قِيَم القُبول بالآخر الوطني، وأنْ تُبادِرَ إلى البحث عن المُشتركات بيْن كل مكوّنات المُجتمع وفئاتِه وطوائفِه ومذاهبِه.
مُلخّص هذا الدّرس البليغ في دلالاتِه أنّه لا تقدّم في دنيا العرب من دون أنْ تُدركَ النّخب الحاكمة أنّ الحرّيّة والعدل الاجتماعي صِنْوان لا يَفترقان إلّا على حساب أغلبيَّة الشّعب، وأنّ العدالة ضَمانة لصيانَة المُجتمع.
بعد كلّ هذه التّجارب الكارثيّة لم يعد مُتاحًا ـ ولا مَقبولًا ـ أن تبقى قائمةً هذه النّوعيّة من النُّظُم الحاكمة، وقد حانَ وقت التّغيير الطّوْعي بديلًا عن التّغيير القَسْري، الّذي تفرضُه تطوّرات خارج إرادةِ هذِه الأنظمة.
التّغيير الذي طال انتظاره يتمثّل في الخروج من مرحلة "دولة الجيش" للدخول إلى مرحلة "جيش الدّولة"
لم يَعُد هناك وقتٌ تُضيّعه النُّخب الحاكمة في بلدان العرب لكيْ تقود عمليّة انتقالٍ سلمي من مرحلةِ الدّولة السّلطويّة إلى مرحلةِ الحُكْمِ المدني الدّيموقراطي، من دون تَعْطيل، ولا تَلكُّؤ، حتى لا يَجْرُفَها تيّار الفوضى التي تستدْعي التّدخّلات الأجنبيّة، وتُنْذِر بصراعاتٍ داخليّة إذا نَشِبَت فلا عاصِمَ من مآلاتِها المُفْزِعَة، ولا مانع لتَوابعِها التي تُهدّد كيان الدّولة قبل أن تُطيح بتلك النّخب إلى مزابل التّاريخ.
التّغيير الذي طال انتظاره فيما تبقّى من تلك الجُمهوريّات يتمثّل ـ أوّل ما يتمثّل ـ في الخروج من مرحلة "دولة الجيش" للدخول إلى مرحلة "جيش الدّولة".
"الأعلاف غير التّقليديّة": كيف تُنقذ العالم العربيّ من نزيف الدّولارات؟
جيش النّظام ينهار لحظة سُقوط النّظام، بينما تبْقى جيوش الدّول ضمانةً لحاضرِها، وأمانًا لمستقبلِها حين تسقط الأنظمة، أو تتغيّر في إطار تدَاول السّلطة الذي هو عصب وعماد الدّولة المدنيّة الدّيموقراطيّة التي حانَ وقتها، وتأذن وجودها بلا تلكّؤ أو تلاعب.
ما تبقّى من الجُمهوريّات العسكريّة أمام تَحدِّيات هائِلة، وهي تتلفّت حولها اليوم فتُفجِعُها تلك النّهايات المُفزِعة، وتضعُها أمام امتحانٍ صعب، ليسَ أمامَها غير إجابة واحدة على كلّ هذه التّحدّيات، هي إجابة التّحوّل من الدّولة العسكريّة الأمنيّة إلى دولة مَدَنِيّة ديموقراطيّة تقوم على المُواطَنة والحرّيّة والعدالة واحترام حقوق الإنسان.
الدّولة الوطنيّة المستقلّة القادرة على حمايةِ أرضِها وقرارِها الوطني، لها أعمِدة ثلاثة لا يمكن التّغافل عن واحد منها لكي يستقرَّ بُنيانها ويستمرَّ وجودها في مكانتِها ويحفظ إمكاناتها:
أوّل تلك الأعمدة أن تعودَ الجيوش إلى مهمّاتها الأصليّة في الحفاظِ على سلامة الدّولة والدّفاع عن وحدة أراضيها، وتَبتعِد ـ أو تُبْعَد ـ عن أي تدخّلات سياسيّة في الدّاخل.
ثانيها أن يتمَّ إقرار مبدأيْ تداول السّلطة، والفصل بين السّلطات حتى لا تجور سلطةٌ على أخرى، أو تصادرَ قرارها أو ترهنه، وأن تحفظَ التّوازُن بين السّلطات.
وثالثها احترام وتشجيع التّنوّع الثّقافي والفكري والاجتماعي والحقّ في التّعدّديّة وحرّيّة الإبداع والبحث العِلمي والحرّيات الأكاديميّة وحقوق المرأة والشّباب والأقليّات.
لا مستقبل للعرب من دون إقامة دولة مدنيّة ديموقراطيّة تنمويّة
لم يعد كافيًا الحَديث عن ديموقراطيّة سياسيّة مَفصولة ـ أو مُنفصلة ـ عن عدالةٍ اجتماعيّة، لكيلا تتحوّل الحرّيّة السّياسيّة إلى حكم النّخب، وإبقاء الأغلبيّة الشّعبية بعيدًا عن التأثير الفعلي في صِناعةِ القرار الوطني، وتقريرِ سياساتٍ وطنيّة لمصلحة جميع طبقات المجتمع وفئاته الاجتماعيّة.
تَداوُل السّلطة هو "الفريضةُ الغائبة" في بلاد العرب، ولا مستقبل للعرب من دون إقامة دولةٍ مدنيّةٍ أوّلًا، ديموقراطيّةٍ ثانيًا، وتنمويّةٍ ثالثًا.
الطّريق إلى الدّيموقراطيّة في دنيا العرب طويل، ولكن لا مناص من وُلوجِه والسّير فيه بلا رجْعة ومن دون انتكاسة.
بداية الطّريق الصّحيح من هنا، من جَعْل التّداول في منصب الرّئيس واقعًا دستوريًّا وقانونيًّا لا يمكن الالتفاف عليه أو تجاوزه حتى يأتي وقتٌ نَنْعم فيه بنعمةِ أن يكون بيننا "رئيس سابق على قيْد الحياة".
(خاص "عروبة 22")
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :