بقلم فارس بدر
السادس عشر من تشرين الثاني:
الذكرى الثانية والتسعين لتأسيس الحركة السورية القومية الإجتماعية.
الإحتلال الإسرائيلي يستفرد بضحاياه ، إغتيالاً وإقتلاعاً واستيطاناً.
- المقاومة بصمودها، تكسر معادلة " قوّة لبنان في ضعفه" أو " العين لا تقاوم المخرز".
-الشعب اللبناني والفلسطيني يقاتل بحجارته وإرادته ، دفاعاً عن أمّة بكاملها ،
والمحيط القومي غارق في نكباته الأمنية والسياسية والإقتصادية.
—لن ينزل هذا الشرق عن صليبه إلا بموازين قوى جديدة يوفّرها المحيط القومي لفلسطين في مواجهة المشروع الاستيطاني في المنطقة.
تشكّل هذه المناسبة محطة فكرية وسياسية وثقافية بامتياز، لجميع المعنيين بالشؤون الوطنية والقومية
ذلك أن المناسبة تتعدى كونها احتفالا طقسيّاً بذكرى تأسيس الحركة السورية القومية الاجتماعية لتتحول الى منصّة للحوار تستهدف الإضاءة على المفاتيح النظرية والفكرية التي ساهمت في إرساء قواعد النهضة وتحديد معالمها وإطارها من منظار الأمن القومي، وما يتداخل مع ذلك من عوامل ديموغرافية واجتماعية واقتصادية وجيوسياسية.
ولعله من المفيد في هذا السياق الإضاءة على بعض المرتكزات العقدية التي أعطت لأنطون سعاده ولحركته ولحزبه لونا مميزا عن سائر القوى والتيارات السياسية التي واكبت نشوء الحركة السورية القومية الاجتماعية او عاصرتها على امتداد قرن بكامله تقريبا.
فالاحزاب والحركات السياسية خلال تلك الحقبة عملت تحت رايتين:
الأولى: كيانية، بصرف النظر عن أفكارها وبرامجها وشعاراتها، من اليسار الماركسي (في تنوعه الشيوعي والاشتراكي) إلى اليمين الانعزالي (بتنوعه الاجتماعي والطائفي). أما القاسم المشترك بين هذه الأحزاب أو الحركات، فكان التقوقع داخل الحبوس التي رسمتها اتفاقية سايكس ـ بيكو بحيث ساهمت بطريقة أو باخرى في إرساء الواقع الكياني الذي شوه الوعي الاجتماعي والتاريخي لأجيال ما بعد الحرب العالمية الاولى.
الثانية:عروبية، حملت شعارات بعثية وناصرية (متحالفة حينا ومتصارعة احيانا) لكنها اعتمدت في الغالب ثنائية (الدين واللغة) باعتبارهما المكون الرئيسي لنشوء الأمة، وقفزت فوق العوامل الطبيعية والجغرافية والاجتماعية باعتبارها عوامل ثانوية.
لم يكن انطون سعاده مشغوفا بأي من المدرستين، بل خلافا لذلك خاض حربا ضروسا لتعريتهما، ليس على قاعدة الصراع السياسي الفارغ من المضامين، بل على قاعدة البحث العلمي والتاريخي والاجتماعي، هذا البحث الذي رافقه في رحلته المعرفية، واستنزف الكثير من وقته وطاقته وإمكاناته لدرجة يعجب فيها المرء من قدرة هذا الانسان على ان يقدم ما قدمه خلال حياته القصيرة التي ختمها شهيدا عام 1949 على عمر يناهز الخمسة والأربعين عاما.
لم يتوقف انطون سعاده عند حدود (النقد) - على أهمية ما حمله ذلك من تعرية للمصطلحات السياسية والاجتماعية وللتعريفات السوسيولوجية والانتروبولوجية مثل مفاهيم (الأمة والبيئة والجماعة والقومية والمجتمع والدولة والعلمنة والإنسان ـ المجتمع ) مفنّداً ذلك في كتابه ـ المرجع (نشؤ الامم) ـ بل تعدى ذلك الى العمل الدؤوب لإشادة بنائه الفكري ومنظومته العقائدية والسياسية فيما اطلق عليها لاحقا "بالحركة السورية القومية الاجتماعية". وقد هاله استخدام هذه المصطلحات خارج إطارها العلمي والسوسيولوجي مما أدى إلى إحداث حالة من البلبلة والفوضى (القومية اللبنانية، القومية العربية، المجتمع اللبناني، المجتمع العربي، الأمة اللبنانية والأمة العربية) وأشاع مناخا من الانشطة السياسية والنتاج الفكري الخارج عن محوره القومي الطبيعي حينا، ليتمحور حول مصالح القوى الطائفية والمذهبية غالبا، تلك القوى التي حملت في جعبتها وادبياتها وبرامجها مشاريع الكانتونات والتقسيمات العرقية والدينية بعيدا عن المصالح الفعلية والحقيقية للمجموع القومي.
في هذه البيئة التي تموج بالتناقضات والصراعات، دخل انطون سعاده عالم السياسة، وبدأ وعيه بالتكون رويدا رويدا.
في البداية كان طالبا للعلم، لينتقل الى متمرد على طريقة جبران خليل جبران، من ثم ناقدا ومحللا، وبعدها منقبا وباحثا، ليخوض بعد ذلك معركة التأسيس والتنظيم فاتحا بذلك عهدا جديدا للعمل السياسي والنضالي، طبع رحلة حياته منذ مطلع عشرينات القرن الماضي حتى لحظة استشهاده.
ولعل اهم العناوين التي يجب التوقف عندها هي تلك التي أحدثت ارتجاجا في قلب"منظومة المفاهيم والقيم والوقائع" التي زرعها الاحتلال العثماني وكرسها فيما بعد الاحتلال البريطاني/ الفرنسي لمنطقة الهلال الخصيب. هذه الوقائع التي تجسدت سياسيا باخطر اتفاق تقسيمي لكيانات الامة السورية (اتفاقية سايكس/بيكو عام 1916) وبعدها وعد بلفور، في 2 نوفمبر 1917) والذي وصفه سعاده قائلا: "إن من لا يملك، أعطى وعدا لمن لا يستحق" .
وقد جاء رد سعاده منهجيا وعلميا على المستويات التالية:
اولا: رفضه المطلق لمعاهدة سايكس/ بيكو ووعد بلفور في مرافعة قانونية تدحض عملية التزوير لإرادة شعوب المنطقة وطموحاتها في الاستقلال والحرية والوحدة.
ثانيا: تعيينه للمخاطر الجسيمة المترتبة على مستقبل الامة، كاشفاً أهداف المشروع الصهيوني ومحرضاً على مواجهته بسائر الأساليب المتاحة. (بالإمكان الاطلاع على التفاصيل في كتابه "مراحل المسالة الفلسطينية".
ثالثا: صياغته لمشروع متكامل على المستوى القومي، معتبرا ان وحدة سوريا الطبيعية حقيقة علمية، تاريخية، اجتماعية وجغرافية. وان العالم العربي من المحيط الى الخليج عبارة عن اربعة مسطحات جغرافية (الهلال الخصيب، وادي النيل، المغرب العربي، الخليج العربي)، مضيفاً ان الطريق الى الوحدة العربية الشاملة يكمن في تشكل هذه المحاور الطبيعية الأربعة إلى حين توافر الظروف التاريخية والاقتصادية لمشاريع وحدوية أكبر حجما، ربما على غرار ما تشهده السوق الاوروبية المشتركة خلال هذه الحقبة من تطورها. للتفاصيل يمكن مراجعة كتابه القيّم "نشؤ الامم".
رابعا: دعوته المبكرة الى (فصل الدين عن الدولة). لقد أدرك سعادة بنظره الثاقب طبيعة التركيب الإثني والعرقي والديني والطائفي والمذهبي، كما انه أدرك أهمية الدين كحاضن ثقافي يسكن في قعر الوعي الاجتماعي لمجموع الامة، غير أن سعاده أراد الدين علاقة بين الانسان وخالقه، ينظمها بنفسه ويحدد وتيرتها وحجمها بقرار من ذاته. لذلك لم يطمح سعادة الى دور في تنظيم هذه العلاقة على غرار ما يقوم به اليوم دعاة الدولة الدينية وممثليهم على الارض من أولئك الذين يحجزون لنفسهم مقعدا في الجنة و"لأعدائهم" من الطوائف الاخرى مقعدا في جهنم. ولكنه أراد دورا في تنظيم العلاقة الاجتماعية بين الناس في اطار مجتمع مدني الكل فيه سواسية، بصرف النظر عن انتماءاتهم وقناعاتهم الدينية..
للمزيد من التفاصيل يمكن مراجعة كتابه : "الاسلام في رسالتيه".
وها هي الأنواء اليوم تعصف بأشرعة الأمة بعيدا عن مشروع سعادة العلماني والوحدوي والنهضوي حيث تتعثر داخليا في إرساء قواعد وحدتها، فتتكالب عليها القوى الدولية وتستفرد بكياناتها أشلاء مقطعة الأوصال،
ويتمادى الإحتلال الصهيوني في جرائمه ومخططاته الاستيطانية وانتهاكاته اليومية للقانون الدولي ، في حين تختار شعوب هذه الأمّة البقاء في أقفاص الكيانات والكانتونات الطائفية والقبلية والمذهبية.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :