كتبت الدكتورة رشا ابو حيدر
يُعدّ تعدد الأديان من أبرز مظاهر التنوع البشري، حيث تتوزع الإنسانية على أديان ومعتقدات وشرائع متعددة، تتفاوت من حيث التفاصيل والطقوس، لكنها تشترك في الغايات الكبرى المتعلقة بالروح والمعنى، والبحث عن الحق، وتنظيم العلاقة بين الإنسان وخالقه. وهذا التعدد ليس عبثًا، بل هو سنة إلهية عميقة الجذور، تُعبّر عن حكمة الله في إدارة الخلق، وتنظيم مسيرتهم نحو المعرفة، والهداية، والسعادة في الدنيا والآخرة. وفي هذا المقال، نقف على أهم ملامح هذه السنة الربانية، لنفهم كيف أن الاختلاف في الأديان لا يعني التناقض، بل هو تعبير عن تكامل الرسالات وتعدد طرق الهداية.
أولًا: التنوع في الخلق سنة إلهية ثابتة
يقرر القرآن الكريم أن الله خلق الناس مختلفين في ألوانهم وألسنتهم وشعوبهم وقبائلهم، فقال تعالى: "ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين" (الروم: 22)، وقال أيضًا: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا" (الحجرات: 13). وبالقياس على ذلك، فإن اختلاف الأديان أيضًا يدخل في إطار هذه السنة الإلهية، حيث أن الله لم يُرد للبشرية أن تكون على شاكلة واحدة في كل زمان ومكان، بل خلقها في تنوع واختلاف ليختبرهم، ويُظهر صدق الإيمان، وقوة الإرادة، وسعة المعرفة.
ثانيًا: تعدد الشرائع بين الأمم والشعوب
لقد أرسل الله عز وجل أنبياءه إلى أقوامهم كلٌ بلغتهم وثقافتهم، فقال: "وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم" (إبراهيم: 4). فاختلاف الشرائع هو استجابة إلهية لخصوصيات الشعوب وظروفها الثقافية والاجتماعية والتاريخية. فشريعة موسى عليه السلام كانت مناسبة لبني إسرائيل في زمانهم، بينما جاء عيسى عليه السلام بالتخفيف والرحمة، وأُرسل محمد ﷺ بالرسالة الخاتمة العالمية التي جاءت لتخاطب الإنسانية جمعاء. إذن، فالشرائع تتطور وتتبدل بحسب حاجة الناس، لكنها تتوحد في جوهرها على مبدأ التوحيد، والدعوة إلى عبادة الله، وتحقيق العدالة، ونشر الرحمة.
ثالثًا: التكامل بين الرسالات لا التناقض
من أبرز المفاهيم التي يجب ترسيخها في الوعي الإيماني، أن الأديان السماوية جاءت متكاملة، لا متناقضة. فكل شريعة جاءت لتُكمل ما قبلها وتسد فراغًا أو حاجة في واقع معين. والقرآن الكريم نفسه يعترف بالرسالات السابقة ويُقدّرها: "إنَّا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور" (المائدة: 44)، ويقول عن الإنجيل: "وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقًا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور" (المائدة: 46). وهكذا، يُمكن اعتبار الرسالات السماوية سلسلة متصلة من الهداية الربانية، تقود الإنسان خطوة خطوة نحو النضج الإيماني، وترشده وفق مرحلته التاريخية والمعرفية.
رابعًا: الحكمة من الاختلاف الديني
الاختلاف في الأديان ليس بالضرورة سببًا للعداء أو الصراع، بل يمكن أن يكون مصدرًا للتعارف والتعاون. يقول الله تعالى: "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين" (هود: 118). فالاختلاف في الاعتقاد هو مجال للاجتهاد والتفكر، وفرصة للحوار الحضاري وتبادل التجارب الروحية. بل إن بعض علماء المقاصد يرون في هذا التنوع رحمةً للناس، وفرصة للاختيار، وتجليًا لحرية الإنسان في الإيمان، وهي الحرية التي كفلها الإسلام بقوله: "لا إكراه في الدين" (البقرة: 256).
خامسًا: الإيمان بالدين الحق دون تعصب
الإسلام يدعو إلى الإيمان بأنه الدين الخاتم، ولكنه في الوقت ذاته لا يمنح أتباعه الحق في ازدراء الأديان الأخرى أو الإساءة إلى معتنقيها. بل ينهى صراحةً عن سبّ آلهة الآخرين: "ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم" (الأنعام: 108). وفي هذا السياق، تتجلى حكمة الإسلام في الجمع بين الثبات على العقيدة، والاحترام للآخر المختلف. فلكل إنسان حق الإيمان بدينه، وحق الاعتزاز بعقيدته، ولكن دون أن يكون ذلك مبررًا للتمييز أو العنف أو الكراهية.
سادسًا: الغاية من الرسالات السماوية واحدة
مهما اختلفت الأديان وتنوعت الشرائع، فإن غايتها واحدة، وهي هداية الإنسان إلى ربه، وتنظيم حياته وفق قيم الحق والعدل والرحمة. فالله لم يخلق البشر ليعذبهم، بل ليهديهم ويُظهر الخير فيهم، كما قال: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" (الذاريات: 56). والعبادة هنا ليست طقوسًا فحسب، بل سلوكٌ وتزكيةٌ وعدالة. ولهذا كانت الرسالات كلها تسعى إلى إقامة مجتمعات عادلة، تُعلي من قيمة الإنسان، وتحمي كرامته، وتوصله إلى السعادة في الدنيا والآخرة.
خاتمة
إن تعدد الأديان ليس معضلة فلسفية أو معركة بين الحق والباطل، بل هو جزء من سنة الله في الخلق، وساحة واسعة للتأمل والحوار والتعاون. ففي اختلاف الشرائع، وتعدد الرسل، وتنوع التجارب الدينية، حكمة بالغة تدعونا إلى التواضع أمام عظمة الله، والانفتاح على الغير، والإيمان بأن الحقيقة المطلقة لا يحيط بها عقل واحد، ولا تنحصر في لغة أو زمان أو قوم. وما أحوج الإنسانية اليوم إلى هذا الفهم العميق، لتجاوز الصراعات الطائفية، وبناء عالم يسوده السلام والتعايش والرحمة، كما أراد الله لجميع خلقه.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :