مَن يُشعل فتيل الفتنة فسيحرق يديه أوّلاً!

مَن يُشعل فتيل الفتنة فسيحرق يديه أوّلاً!

 

Telegram

 

بدر الحج*
لم أستغرب إطلاقاً زيادة الشحن الطائفي والمذهبي في لبنان، وما رافقه من دعوات إلى الفدرالية أو التقسيم. والسبب أنّ هذه أمور من طبيعة وإفرازات النظام المذهبي العنصري الذي أرسى دعائمه العنصريون الفرنسيون. هذا النظام بُني على الرمل وانهار أمام أعين الجميع. وفي عودة سريعة إلى التاريخ، نذكر أنّ القوّات الفرنسية تدخّلت عسكرياً بهدف «وقف» الحرب الأهلية التي اندلعت عام 1860. وفي تلك الفترة وضع العسكريون الفرنسيون تصوراتهم لقيام دولة مسيحية في جبل لبنان، وألحقوا بها الأقضية الأربعة. حدود تلك الدولة رسمها قادة الجيش الفرنسي في خريطة رسمية أصدرتها المؤسسة العسكرية. وقام بعملية التنفيذ في أول أيلول عام 1920 الجنرال غورو في مشهد مسرحي أعلن فيه «استقلال لبنان»، بالطبع عن سوريا! وتمّ جمع بطريرك الموارنة ومفتي السنّة ورهط من اللبنانيين المتكالبين على السلطة تحت الاحتلال. وفي الوقت نفسه، اعتقلت السلطات الاستعمارية شقيق البطريرك، سعدالله الحويك، ومجموعة من الناشطين الوطنيين الأحرار، وتمّ نفيهم على اعتبار أنهم «خونة» لمعارضتهم تلك المهزلة.
منذ ذلك التاريخ والكيان الجديد الهجين يتخبّط بصراعات متواصلة، بعضها دموي، ضمن الطائفة الواحدة تارة، أو بين الطوائف المختلفة تارة أخرى. ولا يتّسع المجال هنا لسرد كلّ الأحداث، لكن دعونا نأخذ مثالاً الصراع بين إميل إده وبشارة الخوري وهما من طائفة واحدة. فقد كان محور الخلافات السياسية في أربعينيات القرن الماضي أنّ كلّ طرف يمارس أقصى درجات التزلف للمندوب السامي الفرنسي بهدف المحافظة على مكاسبه في السلطة.
وفي مرحلة الخمسينيات من القرن الماضي، ومع صعود الناصرية وإصرار رئيس الجمهورية كميل شمعون على التجديد لنفسه، وتقديمه العروض والتنازلات للدول الأجنبية، وخاصّة الولايات المتحدة، للموافقة على التجديد له، دخلت البلاد في حالة استقطاب حادّة. لكنّ مشكلة شمعون الأساسية أنّ فؤاد شهاب قائد الجيش الذي كان يحلم بالرئاسة ويخطّط لخلافة بشارة الخوري، وقف له بالمرصاد. انحياز شمعون إلى الغرب وعداؤه للناصرية فجّرا حرب 1958. ومع أنّ شمعون استدعى قوات المارينز الأميركية، فقد انتهت الحرب بلا غالب ولا مغلوب وتسلّم شهاب السلطة.
واليوم يتكرّر المشهد بعد الهزائم المتلاحقة التي حلّت بالانعزاليين اللبنانيين. فقد تورّطوا في صراعات داخلية أدّت إلى أن ينحر بعضُهم بعضاً. وسبق أن انتزع «اتفاق الطائف» معظم صلاحيات الرئاسة الأولى بموافقة البطريركية المارونية. وحاول أمين الجميل عقد «صفقة سلام» مع الصهاينة، كما فعل شقيقه بشير الذي عيّنه الصهاينة رئيساً في بعبدا، وفشل.
بديهي أن نسمع اليوم شعارات مثل «حروب الآخرين على أرضنا» و«لا يشبهوننا» و«لا نستطيع العيش معهم»... كلّ ذلك هو إفراز طبيعي متوقّع للفيروس الفرنسي الذي حال دون أيّ إمكانية لبناء بلد يتساوى فيه المواطنون. كرّسوا الطائفية أساساً للنظام اللبناني. جميع أفراد الطبقة السياسية - مع استثناءات قليلة - هم عبارة عن «مجموع أشخاص يساوي قضايا شخصية»، والعبارة لأنطون سعادة. كلّ زعيم طائفة يرتبط علناً بسفارة أجنبية، يتلقّى التمويل وينفّذ سياستها. أمّا إذا كانت له مصالح خاصّة، فلا يتورّع أبداً عن تفجير فتيل النزاع الدموي الداخلي.
لا يستطيع الساسة الذين حكموا لبنان وأورثوا الحكم لأولادهم وأحفادهم، وكذلك لا يستطيع قادة الميليشيات الذين أوغلوا في عمليات القتل، أن يتخيلوا أنّ المعدمين اللبنانيين الذين رفض النظام تأمين أساسيات الحياة لهم، أصبحوا القوّة الشعبية الأولى. ومن الطبيعي أنّ مستقبل لبنان سيقرّره مَن حارب العدوّ وحرّر الأرض. من هنا أفهم جيداً شعورهم بالمرارة ودعوتهم الخارج لمساعدتهم، أو العمل على تأجيج النزاع الدموي، والتحريض علناً على الفتنة (مجزرة الطيونة مثالاً). وبلغ الأمر بالبعض منهم أن يدعو علناً إلى «السلام» مع الصهاينة مستعيداً «أمجاد» أسرته الغابرة...
وطالما أنّ المذهبية والمحاصصة الطائفية هما الأساس الذي تقوم عليه الدولة، فمن المستحيل الحيلولة دون انتشار دعوات الفتن المذهبية، خصوصاً إذا استمرّت طائفة ما بالتوهّم أنها تتميّز عن غيرها من الشركاء في الوطن. وبكلام مختصر: إنّ بذور الفتنة كامنة في جسم النظام الذي سقط، لكن للأسف لم يوجد أحد حتى الآن لاقتلاعه من الجذور.
إنّ الردع الفعّال الذي يطبّقه المقاومون اللبنانيون في الجنوب ضدّ العدوّ، سبّبَ هزيمةً نفسية ومادّية تضاف إلى سلسلة الهزائم التي مُني بها المتصهينون في لبنان

إنّ «طوفان الأقصى» أكّد على حقيقة ساطعة، ألا وهي أنّ هذه الأرض واحدة والشعب واحد، وما قسّمه الفرنسيون والبريطانيون سقط عملياً. وسقط معه الرهان على صراع دموي سني-شيعي دُفعت مئات ملايين الدولارات لإذكائه.
إنّ الردع الفعّال الذي يطبّقه المقاومون اللبنانيون في الجنوب ضدّ العدوّ، سبّبَ هزيمةً نفسية ومادّية تضاف إلى سلسلة الهزائم التي مُني بها المتصهينون في لبنان، وهم، بالمناسبة، من كل الطوائف. لم يتعظوا من فظاعات الحرب الأهلية التي كانت هدفاً إسرائيلياً بامتياز. ويحاولون اليوم إعادة الكرّة مجدّداً، لكن ليس في كل مرّة تسلم الجرّة.
التضحيات الجسام التي قُدّمت وتُقدّم حالياً يجب أن لا تذهب سدى. ويجب مكافأة مَن دفع دمه ثمناً لحرّيتنا وتحرير أرضنا بأن نؤمّن لأولاده وللأجيال الجديدة نظاماً جديداً يحفظ كرامة الإنسان ويعطيه حقوقه التي نُهبت من قِبل مافيات السلطة وزعامات الطوائف وأصحاب المصارف الملوّثة أيديهم بدماء اللبنانيين.

* كاتب لبناني

تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

 

Telegram