لماذا هذا القلق اللبناني السيادي من مهمّة الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكستين؟
ما الذي يفسّر هذه الخشية، لدى من يُفترض أن يكونوا أصدقاء واشنطن في بيروت، من صفقة بينها وبين المفترض “عدوّها” في لبنان، أي الحزب؟
وهل من مبرّرات حاليّة، أو سوابق ماضية، تبرّر هذا الخوف؟
المطّلعون يجيبون عن هذه الإشكالية بالوقائع.
بعد الزيارة الأخيرة للموفد الرئاسي الأميركي، آموس هوكستين لبيروت، كانت لافتة جداً سلسلة المواقف التحذيرية من قبل قوى المعارضة اللبنانية. في مقابل صمت يشي بشيء من الارتياح أو حتى الاطمئنان، من قبل الحزب.
المعارضون تحدّثوا عن “هواجس” و”مخاوف من صفقة” و”لا حلّ على حساب لبنان” و”لا تسوية تطيح بسيادتنا”.
بينما الحزب اكتفى عملياً بالقول إنّه ينتظر عرض الأميركي، ليبني عليه ردّه.
لماذا القلق؟
في الحقيقة، وبمعزل عن حسابات واشنطن وتعقيدات مصالحها، ثمّة ثلاث وقائع في علاقة هوكستين بالملفّ اللبناني، تدفع بعض المعارضة إلى القلق والتوجّس. وهي التالية من الأحدث إلى الأقدم:
1- قبل نحو أسبوعين، تردّدت في بيروت معلومات منقولة عن أجواء الخماسية الدولية، تقول إنّ هوكستين حاول التمهيد لزيارته الأخيرة. برسالة من نوع جسّ النبض، نُقلت إلى مسؤولي الخماسية. ومفادها سبر النيّات عن احتمال أن تقبل الخماسية وتدعم، صفقة ما أو تسوية شاملة، من الحدود إلى الرئاسة. وهو ما سُمّي لدى المعنيين من B1 إلى بعبدا. وهي الرسالة التي ظلّت حتى اللحظة بلا جواب من قبل الذين طُلب دعمهم، وتحديداً السعودية.
الذين سرّبوا تلك المعلومة شرحوا أنّ مضمونها هو ما يفسّر إقفال هوكستين الطريق على المساعي الفرنسية، في مسألتَي ترتيبات الحدود وحتى دعم الجيش اللبناني. عبر ما كان مشروع مؤتمر في باريس مخصّص لذلك.
أضاف هؤلاء أنّ هوكستين أوضح للمعنيين أنّ المستهدف ليس الجيش حتماً. ولا حتى مضمون الورقة الفرنسية حول الحدود الجنوبية. والتي قيل إنّ السفيرة الأميركية في بيروت بدت مؤيّدة لمضمونها. ولا صحّة طبعاً لربط الاعتراض الأميركي على الحراك الفرنسي في لبنان، بالتباينات بين واشنطن وباريس في ملفّات كييف وموسكو وبكين وغيرها. على الرغم من صحّة وجود تلك التباينات.
بل السبب الفعليّ، بحسب هؤلاء، أنّ هوكستين كان يحضّر لمعادلته الثنائية. أو صفقته الجديدة، بين الحدود والرئاسة. ولذلك كان حريصاً على ألّا يؤدّي الاجتهاد الفرنسي الأحادي إلى التفريط بأيّ حرف من تلك المعادلة التي كان يفكّر في نسجها.
صحيحٌ أنّ المطلوب ضبط الوضع جنوباً، كما طرحت الورقة الفرنسية. وصحيحٌ أيضاً أنّ ذلك مرتبط بتعزيز قدرات الجيش اللبناني، كما حاولت باريس أن تفعل. لكنّ بتّ هذه المسألة هو لدى الحزب. ووحدها واشنطن تملك حقّ مقاربته في هذا التبادل. عبر تقديم الحوافز له لتشجيعه على القبول. ومن هذه الحوافز الممكنة أو المحتملة، موضوع السلطة في لبنان ونظامها ومعادلات الشراكة فيها. ورئاسة الجمهورية في صلب كلّ ذلك. وهذا ما لا يُترك إطلاقاً للهواة الفرنسيين.
وهو ما برّر الصدّ الأميركي للمساعي الفرنسية. على طريقة أنّ هذا الملفّ في عهدتنا حصراً. فلا تلعبوا هنا!
2- الواقعة الثانية أنّه قبل أشهر، وتحديداً عند زيارة هوكستين لبيروت في نهاية آب الماضي، وقبل اندلاع حرب غزة وطوفان الأقصى. كان الرجل قد بلور في رأسه مشروع حلّ شامل للحدود اللبنانية. وطرحه يومها على المسؤولين الحكوميين اللبنانيين. وقيل إنّ الرئيس بري تحمّس لمضمونه، الذي يعطي لبنان فرصة لانتزاع كامل أراضيه التي لا تزال تحت الاحتلال.
لكنّ اللافت يومها، كما سرّب المسؤولون الحكوميون، أنّ هوكستين قال لهم بالحرف: “يريد حسن نصرالله تسجيل انتصار في ملفّ الحدود، للقول إنّه حرّر باقي الأراضي اللبنانية المحتلّة؟ حسناً أنا جاهز لإعطائه ذلك”.
لم يعطِ الضابط الصهيوني السابق، والدبلوماسي الأميركي الحالي، وناظر سياسات واشنطن الطاقوية. التي من ضمنها بات مسؤولاً عن ملفّ لبنان لا غير. لم يعطِ أيّ تفسيرات أو شروحات إضافية لفكرته تلك. لكنّها ظلّت نائمة في ذاكرة المعنيين. حتى استيقظت بقوّة بعد هجوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) وبعد فتح الحزب لجبهة الجنوب. حيث بات لذلك الكلام وقعٌ مختلفٌ وأبعاد أكثر خطورة وجسامة.
3- تبقى واقعة ثالثة، لا يمكن قراءة المشهد الراهن من دونها. كان ذلك قبل نحو سنتين، حين كان هوكستين يقوم بسباقه الشهير مع الوقت، وضدّ ساعة نهاية ساعات العهد الرئاسي السابق. لإنجاز صفقة الترسيم البحري، قبل مغادرة ميشال عون قصر بعبدا. بما يسمح بتمرير الصفقة بالشكل الرسمي الممكن.
كان يومها في لبنان رئيسٌ للجمهورية يتمتّع بكامل صلاحيّاته الدستورية. وكانت ثمّة حكومة تصريف أعمال، أقلّ اعتواراً ممّا هي عليه الآن، مستقيلة في ظلّ فراغ رئاسي. وطبعاً كان عندنا ولا يزال، مجلس نيابي برئاسة عريقة مستمرّة. لكن على الرغم من ذلك، وعندما قرّر حسم الملفّ نهائياً، ذهب هوكستين ذات يوم للقاء قناة اتّصاله مع الحزب. تحدّث حول الترسيم والاتفاق وإيجابياته وثماره على الجميع، حتى نفدت عموميّاته.
عندها استأذن وفده المرافق وانتقل هو ومضيفه وحدهما إلى مكتب جانبي. هناك سحب من جيبه خريطة وضعها فوق الطاولة. وقال لمحاوره: هذا ما أخذته لكم من إسرائيل. قل لهم إنّه العرض الأخير. وأنا أنتظر الجواب.
انتقلت الخريطة إلى طاولة قيادة الحزب مباشرة. دُرست سريعاً. بكلّ نواقصها وفجواتها وعوراتها السيادية والدستورية والقانونية الدولية.
ثمّ أُبلغ هوكستين بموافقة قيادة الحزب. وبعده، أبلغ الرئيسان عون وبرّي بأنّ الاتفاق قد تمّ!
الاتّفاق في بيروت والانتخاب في بغداد
في هذه الأثناء، انتهى فجأة “الانسداد الرئاسي” في بغداد. انتُخب رئيس محسوب على طهران. سقط مصطفى الكاظمي فوراً بعد الرئيس. وصارت للعراق سلطة جديدة، تجسّد ثلاثية “حكم وحشد وثلث” مكوّنات الشعب. والأهمّ على قاعدة “وحدة المسار والمصير” مع إيران.
من مجمل الوقائع الثلاث المذكورة، تظهر صورة واقعية وقائعية، تثير قلق الكثيرين من اللبنانيين. ليس من المعارضين وحدهم. بل حتى من حلفاء الحزب أو “متفاهميه”. يكفي في هذا السياق التذكير بنموذج جبران باسيل، في معاناته التي تشبه تراجيديا إغريقية. فالرجل خضع قبل 3 سنوات ونيّف لعقوبات أميركية، بحجّة تفاهمه مع الحزب، بحسب رأيه على الأقلّ.
ولذلك يقاطع الموفد الرئاسي الأميركي باسيل اليوم، استناداً إلى تلك العقوبات بالذات. بينما ينتقد باسيل موقف الحزب بعنف، بلا أيّ ردّ أو جواب من الأخير، بل بتجاهل كامل منه. فيما الحزب والأميركي يتبادلان الرسائل ويمهّدان للاتّفاق بينهما ربّما.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :