في حاكمية مصرف لبنان وقد أضحت في مرحلة جديدة، كما في انتخابات رئاسة الجمهورية، يكمن سر الاسرار في «صندوق باندورا» المقفل والغامض في آن حتى الآن. يتجاوز مَن كان او سيكون في كل منهما الى ما هو أهم: ما المضمر المخفي فيهما؟
الحقبة الطويلة للحاكم السابق لمصرف لبنان، منذ البارحة، رياض سلامة اصبحت من الماضي. على انه خلّف وراءه ما يوازي التخلص منه في منصبه، وهو ان لا يمكّن اي مسؤول منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005 من ان يعرف ماذا كان في مصرف لبنان وما تبقى فيه او ابقى هو؟ ما تجرأ سلامة ان يفعله مع الرؤساء والحكومات المتعاقبة مذذاك، ليس في الامكان تصوّر تجرؤه ان يفعله مع الرئيس الراحل لو كان لما يزل على قيد الحياة: كتْم ارقام مصرف لبنان وموجوداته ومحفوظاته وأسراره عن السلطة التي عينته وأبقته في منصبه ثلاثة عقود، ومن ثم تحوّله الى حصان عربتها غير المستغنى عنه. يمدّها بالمال في مقابل وعد بالرئاسة. ليس الرجل المذنب الوحيد. ما خلفته الحكومات المتعاقبة منذ الاغتيال، وأخصها ثانيتها عام 2005 من الموبقات والارتكابات ليس اقل شأناً فحسب، بل يماثل ما فعله الحاكم السابق في ما بعد. منذ عام 2019، وخصوصاً في ذروة الانهيار، احجم سلامة عن اطلاع حكومة الرئيس حسان دياب عما في حوزته في مصرف لبنان. كذلك مع حكومة الرئيس نجيب ميقاتي قبل تصريفها الاعمال وبعده. مشهود له ايضاً احتقاره مجلس النواب. من المفترض ان الارقام الفعلية المخبأة والمحجورة ان تصبح الآن في عهدة الحاكم الانتقالي نائبه الاول وسيم منصوري والنواب الثلاثة الباقين.
المألوف في تعريف «صندوق باندورا» منذ الميتولوجيا الاغريقية، اسماؤها المرادفة منها «الهدية» و«صاحبة العطايا» الممنوحة من الآلهة الى الانسان. في مصرف لبنان، بعدما اضحى لبنان الدولة والمجتمع على ما هو عليه، ليس اقل من ذلك الصندوق. ثمة نظير له على الطريقة اللبنانية معروف بـ«الصندوق الاسود» يعود الى الستينات ولا يزال قائماً الى اليوم لدى الاسلاك العسكرية والامنية بمسميات مختلفة. يمر فيه بكمّ وفير ما لا يدخل في المحاسبة والمساءلة واكتشاف اصوله ومآل توزيعه. مصرف لبنان انضم اخيراً الى كليْ «صندوق باندورا» و«الصندوق الاسود». جرّة العقود الثلاثة المنصرمة ومخزن أسرار الطبقة السياسية، وليس حارس الصندوق او الجرّة وحده فحسب. ذلك ما يفترض ان يكتشفه منصوري ورفاقه اذا كان ثمة ما يمكن الافصاح عنه او وجود أدلة عليه.
في بعض ما قيل اخيراً، عشية مغادرة سلامة، وعُزي الى تسريب من مصرف لبنان بالذات، اتلاف داتا ضخمة عما فيه من شأنها ان تحيل مهمة خلفه صعبة إذ سيكون امام احد خيارين لا ثالث لهما: اما القول انه يرث تركة ثقيلة ليس مسؤولاً عنها واحيطت بغموض ينوء تحت ثقلها فيكتشف ويكشف تدريجاً فضائحها، او يذهب الى اجراءات اقرب ما تكون الى مجازفات في المرحلة المقبلة من غير المؤكد مآلها.
لكن ثمة ما هو اهم يقال ايضاً ويسع بعض الواسعي الاطلاع تأكيده. شخصيات مالية ومصرفية لبنانية ذات شأن في ادوارها كانت مثلت تباعاً امام وفد القضاة الاوروبيين من فرنسا والمانيا ولوكسبورغ الذي حضر الى لبنان في كانون الثاني ونيسان لاجراء تحقيقات مرتبطة بملاحقة الحاكم السابق، لمست من احاديث القضاة الاوروبيين والاسئلة الدقيقة التي طرحوها امامها المامهم بتفاصيل بالغة التعقيد في ما يفترض ان مصرف لبنان وحده يعرفه. ما استنتجته الشخصيات المالية والمصرفية من القضاة الاوروبيين ان مستندات مصرف لبنان ومعاملاته ووثائقه ومحفوظاته، ورقة ورقة طوال ثلاثة عقود دخلت اليه او خرجت منه، اضحت في عهدة القضاء الاوروبي، وكان حصل عليها من افرقاء ثالثين دوليين ليس منهم مصرف لبنان، ولا حتماً حاكمه السابق. تالياً في ما استخلصوه ليست ثمة اسرار مخفية على القضاء الاوروبي. المقصود بذلك ايضاً ان مصرف لبنان برمته بات بين يديه، عارفاً باللاعبين الاصليين واللاعبين المموَّهين، المتورطين سراً والمتورطين علناً، والمنفذين الكبار والمنفذين الصغار.
محفوظات مصرف لبنان ومعاملاته كاملة طوال ثلاثة عقود حصل عليها القضاء الاوروبي من افرقاء ثالثين دوليين؟
«صندوق باندورا» الحاكمية هو نفسه «صندوق باندورا» الاستحقاق الرئاسي. مثّلت تجربة سلامة اسطع دليل عليه: ان يرشّح نفسه للرئاسة باسم منصبه من دون ان يخوض اي من الافرقاء المحليين والخارجيين معركته او يدعوه مرشّحه. ذلك ما فكر فيه قبلاً سلفه ادمون نعيم عامي 1988 و1989، وراود من بعده ميشال الخوري عام 1992 عندما اوقف فجأة تدخل مصرف لبنان في سوق القطع متطلعاً الى انتخابات الرئاسة عام 1995. مرتان على التوالي صار الى تداول اسم سلامة لانتخابات رئاسة الجمهورية بجدية متفاوتة في مرحلة ما بعد الحريري الاب. حتى ذلك الوقت لم يكن سوى احد موظفيه الكبار الموثوق بهم ليس الا، غير مرشّح في اي لحظة لتوقّع ان يبكّل الرئيس الراحل زر الجاكيت امامه. اولى المرتين في مرحلة ما قبل انتهاء الولاية الثانية للرئيس اميل لحود عام 2007، ثم في مرحلة الشغور عام 2008، وصولاً الى الفرصة الثانية الاقل حظاً بين عامي 2014 و2016 وكان المرشح الوحيد تقريباً هو الرئيس ميشال عون.
الآن اضحى الحاكم السابق خارج المشهد اللبناني برمته، على نحو لم يُعطَ لأي موظف كبير في منزلته او مسؤول حتى، ان يجبه اسوأ ما يمكن ان يتوقّعه: نشرتان حمراوان للانتربول ومذكرتا توقيف فرنسية والمانية، ملاحق بكمّ من الدعاوى في سبع دول اوروبية، مدعى عليه في بلده ومصادرة املاكه في اوروبا، مسحوب منه جواز سفره وممنوع من السفر. ذلك ما لم يختبره سواه.
مع ذلك فإن «صندوق باندورا» الرئاسي الحالي ليس مختلفاً كثيراً. لا احد يعرف تماماً بعد اسم الرئيس الفعلي داخله، كأنه سر الاسرار عندما يهبط كأنه «الهدية» من الآلهة «صاحبة العطايا». وقد تكون افضل صورة لما اضحى عليه الاستحقاق الآن: حوار حزب الله ورئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل الموصوف بالمتقدم يدور من حول الاسم المتفق على رفضهما القاطع له وهو قائد الجيش العماد جوزف عون، ولا يتناول الاسم المختلف عليه بينهما وهو النائب السابق سليمان فرنجيه. في المقابل الفريق الآخر المتمثل في المعارضة المسيحية ليس بعيداً كثيراً من جدول اعمال حزب الله - باسيل: يرفض فرنجيه، ويتظاهر بتأييد عون، ويستنفد ترشيح الوزير السابق جهاد ازعور، ويريد ان يرسو في نهاية المطاف على الاسم الذي يطمئن اليه.
نسخ الرابط :