} سعادة مصطفى أرشيد*
كان يوم 28 أيار الفائت يوماً عالمياً، إذ فاز رجب طيب أردوغان بالانتخابات بعد معركة ضارية ليواصل الجلوس على كرسي الحكم والإمساك بزمام القرار في تركيا لخمس سنوات طوال مقبلة، هذه الانتخابات بجولتيها الأولى والثانية حبست أنفاس العالم لا الناخبين الأتراك فحسب، وهي انتخابات وإنْ كانت ساحتها تركيا ولاعبها المباشر المواطن التركي إلا أنها كانت عالمية بامتياز، فقد تدخلت بها القوى الفاعلة بالعالم أجمع وبذلت في غمارها أقصى ما تستطيع من جهد ومال وتنظيم وعلاقات ودراسات استطلاع وبالطبع بنشاطات أمنية، كلّ وفق حساباته ومصالحه، الولايات المتحدة ومعها الغرب الأطلسي لإسقاط أردوغان وطي قرابة ربع قرن من سيطرته، ومن جانب آخر إيران وروسيا ومحورهما دعماً للرجل.
عرفنا رجب طيب أردوغان في مرحلته الأولى رجلاً قوياً وصلباً ومنفتحاً على الآخر مع إيمانه بقوميته التركية أولاً وبإسلامه البراغماتي ثانياً، مارس السياسة وفق قواعدها وبما يعود عى تركيا بالفائدة، فالسياسة هي فن تحقيق المصالح القومية العليا، هذه السياسات انسجمت مع طروحات منظر السياسة التركية في حينه أحمد داوود أوغلو صاحب نظرية العمق الاستراتيجي وتصفير المشاكل مع ذلك البعد، فانفرجت بشكل كبير العلاقات مع سورية واليونان وأرمينيا والى حدّ ما الأكراد، ورأت النظرية انّ على تركيا بذل الجهد على التنمية بالداخل والنهوض بالاقتصاد وتوسيع دورها الإقليمي والدولي ليس بالسياسة والاقتصاد فحسب وإنما بالثقافة والأدب والسياحة وحتى الدراما التلفزيونية، وانّ ذلك أجدى من اللهاث الذي لا طائل منه وراء الدخول في عضوية الاتحاد الأوروبي، آتت هذه النظرية في المرحلة الأولى أُكُلها فأصبحت تركيا تحتلّ الموقع السادس عشر في الاقتصاد العالمي، لكن هذه المرحلة سرعان ما انقضت فحين شعر أردوغان بفائض القوة، سرعان ما انقلب على شركائه في الداخل أمثال داوود أوغلو وعبد الله غول، وعلى أصدقائه في الإقليم وأولهم سورية لتصبح علاقته معهم تقارب 100% مشاكل، وتضخمت شخصيته إلى درجة الورم، وتضخمت معها طموحاته الوطنية لتأخذ شكلاً امبراطورياً عثمانياً، فأوقع في سورية من الأذى ما يعرفه العالم وهي جراح لا تزال نازفة.
مع كلّ ما قدّمته تركيا الأردوغانية للولايات المتحدة والغرب إلا أنها بقيت مرفوضة طالما كانت تسعى بشكل موازٍ للنهوض والاستقرار الذي حققه أردوغان في الاقتصاد وفي الحياة السياسية، خاصة عندما وضع حداً للجيش الأطلسي العقيدة والدائم الانقلابات المتدخل بالسياسة وحوّله الى جيش ذي عقيدة تركية خالصة…
لم تجد واشنطن في ما قدّمه أردوغان خارج تركيا من خدمات تشفع له، بسبب دوره الفاعل والمؤذي في الحرب الكونية على سورية كما في دوره في تدمير ليبيا وتعطيش العراق بقطع مياه دجلة والفرات عنه واعتبارها انهارا تركية خالصة.
رجب طيب أردوغان خطا في سنته الأخيرة وتحديداً بعد اشتعال الحرب الروسية الأوكرانية خطوات إضافية بالاتجاه المعاكس لواشنطن والغرب، والتي رأينا ثمارها في تحسّن العلاقات الإيرانية ـ التركية، والسعودية ـ التركية، إضافة إلى ملامح إنهاء الخلاف السوري التركي التي تبدو أخباره واعدة بالخير، ها هو يتخلى عن المعارضة التي كان قد وظفها (استأجرها) وعاد عليه الاستثمار بها وبالأزمة السورية بالربح الوفير بابتزاز الأوروبيين، الآن وقد انتهى دورها فلن يحتفظ بها رجل الدولة وسيتركها لمصيرها الذي تستحقّ عندما تعود علاقاته مع دمشق وقد يصبح مستفيداً من ورشة إعادة إعمار وبناء ما دمّرته الحرب، وضمن ذلك حلٌّ لعودة اللاجئين السوريين الذين سيجدون سوق عمل مزدهراً، أما تحسّن العلاقات مع مصر فيريد منه أردوغان إخراجها من التحالف اليوناني القبرصي في مياه المتوسط، و من الواضح منذ اليوم كيف سيكون مصير المعارضة المصرية المقيمة في تركيا ومكاتبها وفضائياتها التي لن تجد لها مكاناً او حيّزاً مريحاً للتحرك في المستقبل القريب وقد تمّ تسليم مطلوبين من الاخوان للسلطات المصرية.
عالم السياسة هو عالم المصالح لا عالم الأحقاد والثأر على الطريقة القبلية، نأمل بأن نرى أردوغان جديداً فهل سيكون هذا أردوغان في مرحلته الثالثة…؟
*سياسي فلسطيني مقيم في الكفير ـ جنين ـ فلسطين المحتلة
نسخ الرابط :