انتهت جلسات استجواب حاكم مصرف لبنان رياض سلامة التي جرت على مدى يومين في قصر العدل حيث مثل أمام القاضية الفرنسية أود بوروزي في إطار التحقيقات القائمة ضد سلامة وشقيقه رجا ومعاونته ماريان الحويك. وقررت العودة إلى بيروت نهاية الشهر المقبل لاستجواب رجا وماريان بالإضافة إلى موظفين في المصرف المركزي ومصرفيين من البنوك اللبنانية. لكنها فجرت مفاجأة قبل مغادرتها بأن وجهت دعوة إلى سلامة للمثول أمامها منتصف أيار المقبل من دون أن تحدد الصفة التي سيمثل فيها.
وقد استكملت بوروزي يوم أمس ما كانت قد بدأته في الجلسة الأولى لناحية طرح أسئلة تتعلق حول حركة الأموال ما بين مصرف لبنان وشركة فوري لصاحبها رجا سلامة وحسابات باسمهما في عدة دول أوروبية. وعلمت “الأخبار” أن بوروزي كانت طلبت من سلامة أول من أمس إحضار مستندات تخص بعض التحويلات، لكنه لم يأت بها أمس، معتبراً أن الأمر لا يفيد في التحقيق، لكنه كان شديد التوتر، إلى درجة أنه اعترض من جديد على وجود ممثلي هيئة القضايا في وزارة العدل في الجلسات، عازياً اعتراضه إلى كون الهيئة صارت خصماً له بعد ادعائها عليه. لكن القاضي شربل أبو سمرا رفض طلبه استناداً إلى أن المعاهدات الدولية تجيز الحضور.
لكن ما لفت انتباه ديبلوماسيين فرنسيين واكبوا التحقيقات، أن سلامة كان أكثر ارتياحاً قبل وصوله إلى الجلسات، وأن طريقة تعامل القاضي أبو سمرا معه تركت انطباعاً سلبياً لدى الفريق الفرنسي. وقال هؤلاء “مارس أبو سمرا المحاباة في علاقته مع سلامة وإدارته للجلسة. وكان يهتم بتفاصيل كثيرة تؤمن راحة الحاكم، من طريقة اختيار الكرسي الذي يجلس عليه، إضافة إلى توفير الضيافة له كل الوقت، بما في ذلك السماح له بتدخين السيجار، والتدخل مراراً لتوضيح ما تقوله القاضية الفرنسية”.
وعندما أبلغت الأخيرة سلامة أنه مدعو للمثول أمامها في أيار المقبل، تدخل أبو سمرا رافضاً. وقال في اتصال مع “الأخبار” بأن “مكتبه في قصر العدل ليس عنواناً خاصاً لسلامة وبالتالي يفترض بالقاضية الفرنسية إبلاغه وفق ما تقتضيه الأصول أي باستنابة قضائية رسمية موجهة إلى النيابة العامة التمييزية”. ورداً على سؤال حول موضوع الاستدعاء إلى باريس أجاب أبو سمرا بأن “ثمة دعوى في فرنسا تتعلق بممتلكات يدقق بمصدر أموال شرائها ولا علاقة لنا بالموضوع”.
وكان سلامة أمس أشد توتراً من أول من أمس، خصوصاً أن الأسئلة كانت مكثفة وسريعة، وهو أعد مطالعة دفاعية استند فيها إلى أوراق ووثائق يمكن إيجاز مضمونها، بأن كل ما قام به في عمله في مصرف لبنان، بما في ذلك ما يتعلق بشركة “فوري” إنما تم وفق الأصول، وأن لديه الموافقات الكاملة من المؤسسات المعنية في المصرف، من المجلس المركزي ومفوض الحكومة لدى مصرف لبنان وكذلك الهيئات الرقابية، وأنه لم يرتكب أي مخالفة توجب الاشتباه به. ومع ذلك كان شديد الارتباك عندما سألته القاضية الفرنسية عن كيفية حصوله على أرباح كبيرة. وسألته مباشرة: كيف يحصل أنك كنت تملك مبلغاً بـ15 مليون دولار صاروا خلال أقل من عشر سنوات بقيمة تجاوز الـ 100 مليون دولار. فرد سلامة بأن لديه استثماراته الكثيرة في لبنان وخارجه، وأن حساباته هذه لا علاقة لها بحسابه في المصرف المركزي ولا تتناقض مع وظيفته وفقاً لأحكام قانون النقد والتسليف.
ادعاء الدولة
أما بشأن مشكلته مع هيئة التشريع والقضايا في وزارة العدل، فقد أوضحت مصادر وزارة العدل أن سلامة تحفظ خلال الجلسة الأولى على وجود القاضية هيلانة اسكندر إلا أن أبو سمرا بالتشاور مع بوروزي رفضا تحفظه وقررا متابعة الإجراءات بحضورها. ونفت المصثادر أن تكون وصول ردّ من وزير المال يوسف خليل حول طلبها منه بيان الرأي بشأن اتخاذ الدولة اللبنانية صفة الادعاء الشخصي في التحقيق الذي تجريه القاضية الفرنسية. وعلم ان وزارة العدل أبلغت الوزير خليل أنها “تعتبر عدم رده بمثابة موافقة ضمنية” وهو ما دفعها إلى إرسال رسالة إلكترونية إلى محكمة الاستئناف الفرنسية لإبلاغها باتخاذ الدولة اللبنانية صفة الادعاء الشخصي ضد كل من الأخوين سلامة والحويك وكل من يظهره التحقيق، وقالت: “أتحمل مسؤوليتي عن كل عمل أقوم به وواجباتي الحفاظ على أموال الدولة والدفاع عن حقوقها”.
سلامة كان شديد التوتر دخن السيجار واستراح لكنه لم يحضر مستندات كما وعد القاضية الفرنسية
وبحسب المصادر فإن السبب الرئيسي وراء الادعاء ضد الثلاثة وطلبها الحجز على ممتلكاتهم وتجميد حساباتهم وحسابات عائلاتهم، هو ادعاء النيابة العامة ضدهم وتحريك الحق العام. فبالاستناد إلى المادة 67 من الأصول الجزائية، يمكن للمتضرر من الجريمة التقدم بادعاء شخصي إلى قاضي التحقيق تبعاً للدعوى العامة التي حركها ادعاء النيابة العامة. وفي هذه الحالة الدولة اللبنانية هي المتضررة وإسكندر هي ممثلة عن الدولة بصفتها رئيسة هيئة القضايا. وعدم الادعاء يعني إهدار أكثر من 300 مليون دولار من الأموال المحتجزة في الخارج وفقاً لما أكدته بوروزي في رسالتها، موضحة بأن للمدعين فقط الحق باسترجاع هذه الأموال.
سلامة مربك
وبينما لم تتوضح الصفة التي سيمثل فيها سلامة أمام القضاء الفرنسي في أيار المقبل، كان الحاكم حريصاً في بيان أصدره أمس أنه ذهب إلى الجلسات بمفرده من دون محام لأنه استدعي “كمستمع إليه لا كمشتبه فيه ولا كمتّهم”، وأكد إعادة تقديم “الأدلّة والوثائق التي كان تقدّم بها إلى القضاء في لبنان والخارج، مع شرح دقيق لها”، مشيراً إلى أنّه “يتبيّن من هذه الوثائق والكشوفات أن المبالغ الدائنة المدوّنة في حساب المقاصة المفتوح لدى مصرف لبنان الذي حُوِّلَت منه عمولات إلى فوري سُدِّدَت من جهات أخرى، ولم يَدخل إلى هذا الحساب أيّ مال من مصرف لبنان، ولم يكن هذا الحساب مكشوفاً”. وتابع سلامة بنفي ارتباط حسابه الشخصي في “المركزي” بالحسابات التي تودَع فيها الأموال العائدة إلى المصرف أو تحويل أي أموال منها إلى حسابه، قائلاً إن التحاويل إلى الخارج الخاصة به، ومهما بلغت، مصدرها حسابه الشخصي”.
واعتبر سلامة كل الإخبارات بحقه في الخارج والداخل معطوفة على ما سماه بـ”الحملات الإعلامية المستمرة” لأكثر من سنتين “تعطشاً للادّعاء عليّ وللضّغط على القضاء والمزايدة عليه”. ولفت إلى مواكبة هذه الحملات من “بعض السياسيين من أجل الشعبوية اعتقاداً منهم أنّ هذا الأمر يحميهم من الشبهات والاتهامات، أو يساعدهم على التّطنيش عن ماضيهم أو يعطيهم عذراً لإخفاقاتهم في مواجهة الأزمة وحلها. وختم بالقول: “الأوطان لا تُبنى على الأكاذيب”.
“لو موند” الفرنسية: بحث عن إمبراطورية الحاكم
بالتزامن مع انتهاء مهمة الوفد القضائي الفرنسي، نشرت مجلة Le monde تحقيقاً تحت عنوان: لبنان… في محركات نظام سلامة لتعدّد الامتيازات التي تمتع بها حاكم مصرف لبنان في الخارج من العقارات الفخمة في “المثلث الذهبي” الباريسي إلى الحسابات المصرفية في المصارف السويسرية إلى الشركات الاستثمارية في لوكسمبورغ. امتيازات استند إليها محام ونشطاء في مكافحة الفساد منذ سنوات لمحاولة تفكيك خيوط الشبكة المبهمة التي حققها سلامة متنقلاً بين ملاذ ضريبي وآخر بمساعدة وتسهيل عدد من المحيطين به، وهو ما أدى إلى مراكمته إرثاً يقدر بمئات ملايين من اليورو في أوروبا. واعتبرت الصحيفة أن ثمة أجزاء كاملة متعلقة بإمبراطورية سلامة المالية يتعيّن الكشف عنها إلا أن عمل النشطاء يتابع اليوم من القضاة الأوروبيين واللبنانيين. هؤلاء يشتبهون بتحويل عشرات ملايين من اليورو من مصرف لبنان الذي يحكمه سلامة منذ ثلاثين عاماً لتبييضها في أوروبا في إطار إساءة استخدام عمله الوظيفي. وأورد التحقيق تفاصيل جلسات استجواب سلامة في بيروت في اليومين الماضيين بالإضافة إلى استعادة زمنية لكل تفاصيل ملف سلامة منذ بدء التحقيقات الأوروبية في العام 2020 وما كشفته من عمليات تبييض في أكثر من سبع دول أوروبية بمساعدة من مصارف لبنانية وما تبعها من تدخلات سياسية لحماية سلامة في لبنان منعاً للتوسع في التحقيق محلياً؛ ومن أبرز هؤلاء رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي.
نسخ الرابط :