«لا مُناسَبَة» للكتابة عن الرئيس سعد الحريري... وهذا هو تحديداً الدافعُ إلى الكتابة عنه.
فإن كان في السلطة، وَجَدْتَ المُوالينَ والمُعارِضينَ يتناولون اسمَه في كل مقالٍ أو تصريح، وإن كان خارج السلطة وَجَدْتَ المُعارِضينَ يكملون مسيرةَ الهجوم عليه فيما ينكفئ المُوالونَ إلى منطقة الصمت، بل يذهب بعضهم للأسف الشديد إلى مناطق المُعارِضين ظناً منهم أن ذلك يَحْفَظُ لهم دوراً ويُبْقيهم أحياء في الفضاءيْن السياسي والإعلامي.
المَقامُ هنا خارج تقييم تجربة الرجل السياسية بما عليها وما فيها، ولا يريد الحريري مَن يدافع أو يبرّر، فهو دَفَعَ ثمنَ شفافيته وصراحته وتلقائيته وعفويته في بلدٍ جُبلتْ الطبقةُ السياسيةُ فيه على التدليس والخبث والمصالح الشخصية والفئوية.
ومَن يُرِدْ أن يقول شيئاً فسيجد أن سعد الحريري نفسه سبقه إليه سواء تَعَلَّقَ الأمرُ برؤيته لمساراتِ المشهد السياسي واستحالة التغيير حالياً، أو سواء تَعَلَّقَ الأمرُ بقضاياه الشخصية والمالية تحديداً.
قال الرجل كل شيء متمنياً أن «يتهنى» بنصيبه كل مَن ادّعى انتصارَه عليه وعلى خطه.
و«الانتصارُ» هنا لم يقتصر على سعد الحريري فحسب، بل على ما يمثّل مهما اختلفتَ أو اتفقتَ معه. هو انتصارٌ على المواطَنة العابرة للطوائف رغم أن وحولَ السياسة اللبنانية أَوْقَعَتْ الرجلَ في سلبيات التجربة أكثر من مَرة، لكنه اكتشف أن كل خطابٍ مذهبي هو مكسبٌ للحزب الحاكم ومنظومته المُمانِعَة.
وهو «انتصارٌ» على الدولة لمصلحة الدويلة، وعلى الاعتدال لمصلحة التطرف، وعلى مصالح الناس وحاجاتهم اليومية، وعلى الحداثة ومُواكَبَتِها لمصلحةِ التخلّف ومَواكِب الضحايا من سورية إلى اليمن، وعلى عروبة لبنان وعلاقاته وانتمائه الطبيعي للمحيط.
انتصارٌ حرم الشبابَ من التعليم وفرصِ عملٍ وحتى الهجرة للفرار من جهنم. انتصارٌ دَمَّرَ كل القطاعات وجَوَّعَ اللبنانيينَ بحجةِ أن الانهيارَ نتاج تَصَدٍّ لمؤامرةٍ كونية ونتيجة للحريرية السياسية... وكل لبناني يصلّي اليوم للعودة إلى ربع حقبة الحريرية السياسية، مهما هبطتْ أطنانُ التحليلات الاقتصادية والسياسية المُعاكِسة الموجَّهة من «تَحالُفِ الأدوات» بغية استكمال اغتيال رفيق الحريري مراتٍ ومرات.
لا مُناسَبَة للكتابةِ عن سعد الحريري، ولماذا يكتبون عنه؟ أولئك الذين أحاطوا به ليلَ نهارٍ من سياسيين وإعلاميين، فَقَدوا حتى فطرة الوفاء الطبيعية فانتقلوا إلى ضفة مُهاجِميه بَدَلَ أن يأسرهم الحياءُ خلف أسوارِ الصمت.
وكم بقي في دائرة الاحترام مَن خالَفَ الرجلَ في توجهاته وسياساته من البداية إلى النهاية، وكم دَخَلَ دائرة (...) مَن نافَقَ له وطبّل وزمّر واستفاد منه ثم انضمّ إلى ليلةِ السكاكين الطويلة علّه يحصل على ثلاثين من الفضة قبل صياح الديك.
لم يكن سعد الحريري خالياً من الأخطاء، بل تجاوزتْ التناقضاتُ السياسيةُ التي عاشها حدودَ التوقُّع.
ومع ذلك كان دائماً السياسي - الضرورة للاستقرار ولجْم الانحرافات الخطيرة، وكان السياسي الأكثر قُرْباً من الناس والاستماع إليهم. واكَبَ انتفاضة 17 تشرين واستجاب لنبْضها واستقال رغم التهديد العلني الذي تلقّاه على شكل «نصيحةٍ» من الحزب الحاكم وبخطابٍ ارتفع فيه الأصبعُ بموازاة النبرة، لكنه استمرّ على موقفه لتبدأ المعزوفةُ المضادةُ ويصبح شعارُ «كلن يعني كلن» تقريباً... «كلن يعني سعد».
تَرَكَ الرجلُ الجَملَ بما حَمَلَ مرحلياً، ولم تتركه الحملات. ربما كان نقْلُ السلاح من كتفٍ إلى أخرى، كما فَعَلَ من ادعى الولاء والقرب منه، جزءاً من السياسة في لبنان، لكن عبارة «الدنيا دولاب» جزءٌ من هوية لبنان، والدولاب سيدور... طول ما السما زرقا.
لا مُناسَبَة للكتابة عن سعد الحريري؟ بل هناك ضرورة للحديث عن أشياء جميلة قدّمها وكانت نقيضاً للبشاعة التي نراها اليوم.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :