تشير المؤشرات إلى ضغط أوروبي على كييف من أجل القبول بمطلب روسيا إلقاء السلاح، من أجل التوصل إلى وقف إطلاق النار.
وأطلقت روسيا عمليتها العسكرية في أوكرانيا في 24 شباط/ فبراير الماضي، بهدف نزع السلاح المتقدم الغربي الذي حصلت عليه كييف، وكذلك تحرير شرق أوكرانيا، وبالتحديد إقليم دونباس من سيطرة السلطات الأوكرانية.
وبعد أربعة أيام من بداية العمليات القتالية، بدأت المفاوضات بين البلدين للتوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار وقد استضافتها بلدة حدودية في بيلاروسيا.
ودخل الطرفان المفاوضات بعدة مطالب، فبينما تتمسك أوكرانيا بـ"وقف إطلاق نار وفتح ممرات إنسانية"، فإن روسيا تشدد على "الحياد وعدم انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ونزع سلاح أوكرانيا والأمن الجماعي، واستخدام اللغة الروسية، والتخلص من النازية الجديدة".
أما الملفان الأكثر تعقيدًا فهما ما يتعلق بـ"السيادة على إقليم دونباس وشبه جزيرة القرم".
فشل وجمود
وجرت ثلاث جولات في بيلاروسيا وأخرى رابعة افتراضيا، قبل أن يلتقى وزيرا الخارجية الروسي سيرغي لافروف والأوكراني دميتري كوليبا في تركيا في مارس/آذار الماضي.
وعلى مدار جولات التفاوض تلك، أثير بين حين وآخر طلب من الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي للقاء نظيره الروسي فلاديمير بوتين "بأي ثمن".
لكن الكرملين كان دوما يستبعد اتخاذ هذه الخطوة في ظل غياب تفاهم ومؤشرات على قرب الاتفاق بين الوفود المتفاوضة.
كما سادت في بعض الأحيان أجواء تفاؤل مع تصريحات مفاوض روسي عن إحراز "تقدّم كبير" في المفاوضات مع أوكرانيا، ومفاوض أوكراني عن أن موسكو توقّفت عن تحديد "مهل نهائيّة" في كييف وبدأت "تُصغي بانتباه إلى اقتراحاتنا"، وأن روسيا تبنت "نهجًا مختلفًا بشكل جوهري" في المحادثات.
فيما تحدث الرئيس بوتين في بعض الأحيان عن "تقدم إيجابي" في المفاوضات.
لكن هذا التفاؤل انتهى وتبدل الحال، فقد تلقت كييف بعدها وعودا بمزيد من الدعم العسكري، وأكد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن لنظيره الأوكراني كوليبا "التضامن الثابت للولايات المتحدة مع أوكرانيا للدفاع عنها".
كما قال الرئيس الأمريكى جو بايدن إن واشنطن ستخصص 2 مليار دولار إضافية لمساعدة أوكرانيا، وأن الناتو سيعزز وجوده العسكري في شرق أوروبا للتصدى للتهديدات الروسية، ووعد بمواصلة فرض عقوبات اقتصادية غير مسبوقة على روسيا.
وأكد بايدن أن الولايات المتحدة قررت استضافة 100 ألف لاجئ أوكراني في الولايات المتحدة.
ومع إقرار زيلينسكي مرارا بأن الدعم الغربي أساسيا لكي تتمكن بلاده من مواصلة التصدي للقوات الروسية، فقد بدا أن الرد الغربي، لا سيما الأمريكي، على جولات التفاوض بين موسكو وكييف هذه هو "استمروا في القتال ونحن سندعمكم".
في المقابل، كررت الخارجية الروسية مرارا أن الغرب، لا سيما أمريكا، هو من يعرقل التفاوض والتوصل لاتفاق بين البلدين المتحاربين.
وفي مارس/آذار، قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية إنّ وفد التفاوض الأوكراني يعمل وفق توصيات أمريكية، "لذلك، فإن أي حوار معه لن يؤتي نتائج إيجابية".
وفي تصريحات صحفية، علقت زاخاروفا على المفاوضات بالقول: "من الممكن إجراء حوار بنّاء إذا كان من تتحاور معه يمثل جهته، على عكس ما نشهده مع ما يحدث بخصوص أوكرانيا، فإن وفد المفاوضات يعتمد على ما تمليه عليه الولايات المتحدة".
ومع استمرار القتال، بدا أن المفاوضات لا طائل منها، وفي منتصف مايو/أيار الماضي، توقفت رسميا المفاوضات بين الجانبين.
وقال نائب وزير الخارجية الروسي أندريه رودنكو للصحفيين: "المفاوضات ليست مستمرة. فأوكرانيا انسحبت عملياً من العملية التفاوضية"، وأكد أنه لا توجد مفاوضات حالياً "بأي شكل من الأشكال" مع كييف.
لكن روسيا أبدت استعدادها للعودة إلى المفاوضات وقالت إن ذلك مرهونا بـ "مبادرة" من الحكومة الأوكرانية.
وقال فلاديمير ميدينسكي، رئيس الوفد الروسي في محادثات السلام وأحد معاوني الرئيس الروسي إن موسكو "على استعداد لاستئناف المفاوضات، لكن المبادرة لمواصلتها في يد كييف".
قارب نجاة
وظل الوضع على ما هو عليه حتى أواخر مايو/أيار، عندما اقترح هنري كيسنجر، السياسي المخضرم الذى عمل مستشارا سابقا للأمن القومي الأمريكي، تنازل أوكرانيا عن بعض أراضيها إلى روسيا من أجل التوصل لاتفاق سلام.
وخلال حديثه أمام المنتدى الاقتصادي العالمي "دافوس"، قال كيسنجر: "من الناحية المثالية يجب أن يكون الخط الفاصل هو العودة إلى الوضع السابق"، بمعنى العودة إلى الوضع القائم قبل الحرب.
وتابع: "أعتقد أنه يجب السماح لروسيا بالاحتفاظ بالقرم، التي ضمتها من طرف واحد عام 2014". وقال كيسنجر، الذي خدم في عهد الرئيسين الأمريكيين السابقين ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد، إن "مواصلة الحرب بعد تلك النقطة لن تكون حول حرية أوكرانيا.. بل حرب جديدة ضد روسيا نفسها".
سلام غير متفق عليه
مثلت هذه الاقتراحات نقطة تحول في الجدل الغربي، ما بين دول داعمة لسيناريو الصدام مع روسيا وأخرى تتمنى نهاية قريبة للحرب.
ومع رفض قاطع للرئيس الأوكراني، علق الرئيس الأمريكي على اقتراح كسينجر، وقال إن "الأمر متروك لأوكرانيا"، مضيفا "لن أخبرهم بما ينبغي عليهم فعله".
وتابع الرئيس الأمريكي "منذ البداية، قلت ولم يتفق الجميع معي: لا شيء عن أوكرانيا بدون أوكرانيا.. إنها أراضيهم".
لكن فرنسا وألمانيا وإيطاليا؛ الدول التي تعاني من تداعيات مؤلمة اقتصاديا ومعيشيا بسبب العقوبات الروسية وما ارتبط بها من أزمة للطاقة، بدا وكأنهم تلقوا اقتراح كيسنجر كقارب نجاة وسط موجات عاتية من التخبط.
وقبل زيارة إلى كييف، قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إن من الأهمية بمكان ألا تتعرض روسيا للإهانة حتى يتسنى إيجاد حل دبلوماسي عندما يتوقف القتال في أوكرانيا، مضيفاً أنه يعتقد أن باريس ستلعب دور الوساطة لإنهاء الصراع، عبر سلام "غير مهين" لروسيا.
وبعد ذلك، توجه ماكرون يرافقه المستشار الألماني أولاف شولتز ورئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراجي إلى كييف.
ونقلت صحيفة "بيلد" الألمانية عن محللين أن الزيارة هدفت لاستكشاف فرص التنازلات الأوكرانية في مقابل منح كييف صفة المرشح للعضوية في الاتحاد الأوروبي.
ويخشى القادة الغربيون من أن الأعمال العدائية التي طال أمدها ستجر دول "الناتو" إلى الصراع، الأمر الذي قد يجبر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على "تصعيد الأزمة".
وبدا أن الضغط الفرنسي، بشكل خاص، مستمر على كييف، حتى إن رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون طالب ماكرون على هامش قمة السبع الماضية في ألمانيا، بالتوقف عن الدعوة لاتفاق سلام.
وقال جونسون خلال لقائه الرئيس الفرنسي إن محاولات تسوية النزاع في أوكرانيا الآن ستساعد على عدم الاستقرار في العالم.
وذكر بيان صدر عن مكتب جونسون أن الأخير "أشار إلى أن محاولة تسوية النزاع الآن لن تؤدي إلا إلى عدم الاستقرار وستمنح (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين تفويضا مطلقا للتلاعب المستمر بكل الدول ذات السيادة والأسواق الدولية".
وفي وقت لاحق، أعربت بريطانيا عن خشيتها من أن تضطر كييف إلى تقديم تنازلات إذا ما طال الصراع وتداعياته الاقتصادية.
وتحدث رئيس الوزراء البريطاني عما وصفه بـ"السلام السيئ". وقال إنه يخشى أن تواجه أوكرانيا ضغوطاً للموافقة على اتفاق سلام مع روسيا لا يصب في مصلحتها، بسبب التداعيات الاقتصادية للحرب في أوروبا.
وفي مقابل هذا الجدل، ظهر مفهوم آخر للسلام والتسوية. هذه المرة على لسان المستشار الألماني شولتز الذي تحدث عن "السلام العادل".
وقال شولتز قبل أيام إن التوصل إلى "سلام عادل" في أوكرانيا هو شرط لرفع ألمانيا عقوباتها بحق موسكو. وفيما لم يوضح شولتز ما يقصده بالسلام العادل لا تزال هناك مؤشرات على ضغط أوروبي على كييف من أجل القبول بمطلب روسيا بإلقاء السلاح من أجل التوصل لوقف إطلاق النار.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :