في أحلك الظروف وأخطرها تتقمّص السلطة دور المهرّج، مستخفةً بعقول الناس عبر إيهامها بأن بثّ الروح في المجلس الوطني لسياسة الأسعار هو خطوة على طريق ضبط الأسعار وقمع الاحتكارات، إلا أنه سرعان ما يتبيّن أن لا صلاحيات لهذا المجلس المنسي منذ 48 عاماً
دفعت وزارة الاقتصاد في اتجاه تشكيل المجلس الوطني لسياسات الأسعار، ولاقاها رئيس الجمهورية ميشال عون بتوقيعه السريع على مرسوم تشكيل المجلس. مهمة المنضوين فيه، بحسب تصريح وزير الاقتصاد أمين سلام، «العمل على وضع سياسة للأسعار بعدما كانت وزارة الاقتصاد معنيّة وحدها من خلال مصلحة حماية المستهلك بهذه المسؤولية». وأضاف: «سيكون على كل قطاع أن يعطي رأيه في سياسة الأسعار، ما يعزّز الرقابة ويضع الأمور في نصابها من خلال ممارسة علمية وتقنية»، وعُدّ صدور مرسوم التشكيل «إنجازاً نظراً إلى الفوائد التي سيحققها لمصلحة المستهلك اللبناني».
كلام سلام أوحى بأن للمجلس صلاحيات كبح الأسعار وسلوك الاحتكارات التجارية الرامية إلى تحقيق الأرباح الطائلة على حساب المستهلكين ومداخيلهم الهزيلة. لكن الواقع هو أن المجلس ليس أكثر من هيئة للتصديق على ما يقوله أبناء القوى الحاكمة وشركاؤهم من أصحاب الرساميل. فهو برئاسة وزير الاقتصاد، ويضمّ ممثلين عن جمعية المصارف وجمعية الصناعيين ومصرف لبنان وغرف التجارة والصناعة. أما وجود ممثلين للاتحاد العمالي العام فدليل أوضح على أن عملية التشارك في رسم سياسات الأسعار لن تكون سوى شكلية وأن هؤلاء سيكونون شهود زور على حكم الكارتيلات.
ووفق مصادر معنيّة، فإن وزارة الاقتصاد «العاجزة عن ضبط تفلّت الأسعار في الأسواق، أرادت وضع كل الوزارات والإدارات المعنية أمام مسؤولياتها، في المراقبة». بمعنى أوضح، هي ستعمل على إحراج الأطراف المعنيين بالرقابة وتقاذف المسؤوليات معهم في سياق القول إنها محاولة لدفعهم إلى التحرّك. ويضيف المصدر إن تشكيل المجلس يهدف أيضاً إلى «وضع وزارة المالية أمام واجبها بمراقبة الشركات لجهة التصاريح الضريبية». أصلاً، هذه المهمة لا داعي للتذكير بها طالما هي مهمة قائمة، والمجلس لا يملك سلطة محاسبة أو مساءلة أي طرف عن تقصيره، أو عن امتناعه عن القيام بواجباته تجاه المستهلكين. كما لا بدّ من الإشارة إلى أن المسألة ليست بهذه البساطة طالما أن الموظفين في القطاع العام يعانون أشدّ المعاناة في الانتقال من مكان سكنهم إلى مكان عملهم بسبب كلفة النقل الباهظة في ظل هزالة رواتبهم وقدراتهم الشرائية. وبهذا المعنى، تصبح المراقبة عنواناً للابتزاز الخاص. لكن اللافت أنه بحسب المصدر «جميع الأطراف المشكّلة للمجلس مقتنعة بعدم جدوى سياسة الشرطي والعصا وسط الفوضى الحاصلة، إنما الحل بسياسة نقدية واضحة».
هناك إشكالية إضافية متصلة بتغييب جمعية حماية المستهلك، أي تمثيل التجار والمصارف مقابل هزالة تمثيل المستهلك، هو أمر يثير الشكوك من أن تصبّ هندسات الأسعار ضدّ مصالح المستهلكين.
في الحقيقة، هناك سببان دفعا الى تشكيل المجلس؛ أولهما تثبيت أنه ليست وزارة الاقتصاد وحدها المسؤولة عن مراقبة الأسواق، بمعنى تخفيف عبء شكاوى الناس عنها. ثانيها رغبة وزير الاقتصاد بالتسويق لنفسه والظهور بصورة الوزير الحاضر في زمن الأزمة. إذ إنه فور تشكيل المجلس، دعا ممثلي مستوردي السلع والمواد الغذائية والسوبرماركت إلى اجتماعٍ كان يفترض أن يعقده قبل مدّة طويلة إذا كان الهدف فعلاً رسم سياسة للأسعار. إذ إن الأزمة بدأت قبل أكثر من سنتين، وانعكاسات ارتفاع سعر الدولار دفعت التضخّم في الأسعار نحو 800%.
انطلاقاً من كلام سلام نفسه، عن الإنجازات والفوائد، ينتقد رئيس جمعية حماية المستهلك زهير برّو ما يصفه بـ«خزعبلات القرون الوسطى». يشير إلى أن المجلس مهمته «التستر على حقيقة تحلل الدولة ومؤسساتها، مقابل سيادة المصارف، والمحتكرين وفق أطر رسمية تزيد من قدرتهم على التحكم بالأسواق».
المفارقة أن وزراء الاقتصاد المتعاقبين أهملوا المجلس الوطني لحماية المستهلك المشكّل قانوناً منذ عام 2006، ويهلّلون لمجلس الأسعار، علماً بأنه إذا كانت نية الرقابة صافية، فلا شيء يمنع من تطبيق قانون حماية المستهلك المسنّ منذ عام 2005، من دون مراعاة التجار أو أي طرف آخر. وهذا ما يرى فيه برو «إسكاتاً لممثلي المستهلك الشرعيين، والاستماع فقط إلى ترانيم التجار والاحتكارات». أبعد من ذلك، فإن إيهام اللبنانيين بالإنجازات فيه من المبالغة الكثير، وذلك لمجرد أن هذا المجلس لا صلاحية لديه في اتخاذ خطوات مؤثّرة كتثبيت الأسعار على سعر صرف معيّن أو تحديد سعرٍ للدولار الجمركي مثلاً أو الخروج بمنصة جديدة للأسعار.
اقتصادياً، لا تصلُح مجالس الأسعار في ظل نظام اقتصادٍ حرّ، إذ لا يمكن معه توجيه الأسعار. وعليه يرى برو أن المجلس «ساقط قبل أن يبدأ»، سائلاً عما إذا كان «المعنيون يعلمون أنّ الأسعار في الاقتصاد الحرّ هي مرآة للواقع الاقتصادي من الإنتاج إلى الاستيراد والتصدير والمنافسة والاحتكارات والفساد والضرائب، وأنها لا تعتمد على المنصّات، ولا برقابة المجالس نصحّح الأسعار، بل بتغيير الاقتصاد التبعي الاستهلاكي غير الوطني العاجز عن التطوّر بالرغم من الكفاءات البشرية».
يلخّص المجلس «المنبوش» بؤس السلطة والمؤسسات التي لا معنى لها سوى في تغطية سيطرة الاحتكارات. وكما المجلس النيابي الذي لم ينجز شيئاً لمصلحة اللبنانيين على مدار سنتين ونصف سنة من عمر الأزمة، لا توقعات تذكر من مجلس الأسعار.
نسخ الرابط :