انتهت يوم الأحد الماضي المرحلة الثانية من اقتراع المغتربين بفيض من عبارات الاطناب والمديح للمقترعين وللبعثات الدبلوماسية اللبنانية التي نظمت واشرفت على العملية الانتخابية. ولم يكتفِ وزير الداخلية والبلديات، وأمين عام وزارة الخارجية والمدير العام للمغتربين بالاشادة بسير العمليات في أكثر من 50 دولة، بل تعدوا ذلك إلى القراءة في نتائجها قبل فرزها، معتبرين بأن الاقفال الكثيف، والذي بلغ نسبة 60 في المئة، إنما يعبر عن وجود نيّة واضحة لدى المغتربين للمشاركة في بناء وطن جديد، قادر على النهوض من أزماته.
في رأينا من الصعب والسابق لأوانه التنبؤ بنتائج الانتخابات أو بمدى قدرة وتصميم الناخبين اللبنانيين في الداخل والخارج على حسن الاختيار بين المرشحين واللوائح، من أجل انتخاب طبقة سياسية جديدة، قادرة على كبح جماح جشع الطبقة الفاسدة، التي استمرت في نهب المال العام لفترة تزيد عن ثلاثة عقود.
في الواقع وقبل أيام معدودة من موعد الانتخابات العامة في الداخل والمقررة في 15 أيّار ما زالت تتصف أجواء المعركة الانتخابية بالبرودة، وهذا ما يؤشر إليه غياب المهرجانات الخطابية الكبيرة، والمواكب الانتخابية السيّارة والصاخبة والتي كانت تتجول وعلى رأسها المرشحون، ويحيط بهم المحازبون والمؤيدون لهم، كما غابت سيّارات الإجرة والباصات المزينة بصور المرشحين، والتي تنقل المواطنين على مختلف الخطوط بين القرى دون بدل. ويمكن من خلال غياب هذه المظاهر استنتاج مدى برودة أجواء المعركة الانتخابية إذا ما قيست بما كان يجري في الماضي من نشاطات وعراضات سياسية.
من خلال متابعة أجواء المرشحين سواء على لوائح الأحزاب التقليدية الكبيرة، أو أجواء المرشحين على لوائح المجتمع المدني أو القوى التعبيرية يبدو وبوضوح بأن أجواء من الغموض والشك والترقب تخيم على الجميع، حيث لا يبدو بأن هناك اطمئناناً للنتائج التي يسعى إلى تحصيلها المرشحون أو لوائحهم. كما يبدو بأن الخبراء المتخصصين في الاستفتاءات الانتخابية لا يملكون الثقة بالأرقام المتوافرة لديهم عن مدى تأييد الناخبين لهذه اللائحة أو تلك. وبالفعل فقد استمعت إلى واحد من ابرزهم، فلم أجد فعلياً بأنه متمكن أو واثق، وبما يسمح له لإبداء أية ترجيحات حول النتائج المرتقبة حتى لدى اقوى اللوائح أو أكبر الأحزاب.
من اللافت جداً الاهتمام الشخصي الذي يبديه الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله، والذي قرّر النزول إلى المعركة الانتخابية من خلال خطب متلفزة يوجهها إلى مختلف الدوائر الانتخابية لتوجيه الناخبين، وشدِّ عصب جمهور المقاومة، ومختلف المجموعات الداعمة لها. ويمثل هذا الأمر مؤشراً على غير عادته، إلى مدى الغموض والشك الذي يسيطر على البيئة الحاضنة للثنائي الشيعي أمل وحزب الله، وذلك بالرغم من كثافة وفعالية الهياكل التنظيمية التي تملكها الحركة والحزب في مختلف المدن والقرى، وعلى رأسهم رؤساء البلديات والمخاتير وكادرات المؤسسات والمدارس والمستوصفات التي يملكانها أو يمولانها. ويبدو من خلال أجواء الشك السائد حول العملية الانتخابية كان السيّد نصر الله واضحاً في دعوته لشد عصب بيئة المقاومة من خلال رفع شعار الحفاظ على المقاومة ومواجهة الدعوات إلى إسقاطها أو نزع سلاحها، من قبل الأحزاب والقوى في المعسكر المواجه، والمناوئ للمقاومة. ويبدو واضحاً بأن حزب الله وحلفاءه يسعون للحفاظ على اكثريتهم النيابية الراهنة، والتي تعتبر الوسيلة الوحيدة الضامنة لحصولهم على حماية ودعم الشرعية اللبنانية لمواجهة خصوصهم السياسيين في الداخل وعلى المستويين العربي والدولي.
تشكّل الأكثرية النيابية في المجلس الجديد الضامن الوحيد لحزب الله وحلفائه للعب دور أساسي في اختيار رئيس للحكومة ولعملية تشكيلها، والإبقاء على الثلث الضامن داخلها، وبما يؤمن القدرة على إسقاطها وتعطيل عمل مجلس الوزراء، في حال تعارض قراراته مع مصالح معسكر المقاومة، وحماية المصالح الإيرانية والسورية.
في المقابل تخوض الأحزاب والقوى السياسية الأخرى المعركة الانتخابية تحت عنوان كبير يتعلق بإستعادة سيادة لبنان، وتخليص البلد من الاحتلال الإيراني، وذلك من خلال نزع سلاح حزب الله.
وينظر المعسكران بأهمية بالغة إلى المرحلة السياسية التي ستلي حصول الانتخابات، وتحديداً الاستحقاقين الكبيرين ما بين مطلع حزيران ونهاية شهر تشرين أوّل، أي إلى تشكيل حكومة جديدة تخلف حكومة ميقاتي، وإلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية، يحل مكان الرئيس ميشال عون. وتسعى قوى التغيير المناوئة لمحور المقاومة، وللتيار الوطني الحر، لإنتخاب رئيس بديل غير منحاز لمحور الممانعة، وبالتالي العمل بكل الوسائل اللازمة لإسقاط خيار جبران باسيل أو سليمان فرنجية المدعومين من حزب الله ومن سوريا.
لا يمكن لأحد التنبؤ بمسار تشكيل الحكومة أو اختيار رئيس جديد للجمهورية قبل معرفة نتائج الانتخابات والاطلاع على موازين القوى في البرلمان الجديد. من المؤكد ان جميع قوى 8 آذار ستحافظ على تكتلها القوي مع حزب الله، بينما على الأحزاب والقوى الأخرى مع عدد من النواب المستقلين، فإن عليها أن تبحث وبسرعة عن أرض سياسية مشتركة تبني عليها تكتلاً نيابياً، يؤمن بتحقيق سيادة الدولة على أراضيها، كما يؤمن بمبدأ وحدة السلاح بيد الجيش اللبناني وحده، ودون أي شريك، بالإضافة إلى رفض تشكيل حكومة محاصصة وانتخاب رئيس للجمهورية خاضع لنفوذ حزب الله.
لا بدّ أن يتحاشى التكتل النيابي المطالب بالسيادة الوقوع في شبائك لعبة التعطيل التي سبق أن استعلمها محور الممانعة، من أجل فرض وصول العماد عون إلى رئاسة الجمهورية، ويمكنهم في الاستحقاق الرئاسي الاستفادة من فائض الاهتمام العربي والدولي لمنع حزب الله من فرض مرشحه.
يمكن التريث في التعاطي مع الاستحقاق والتركيز بعد الانتخابات على تشكيل تكتل نيابي جامع قادر على اختيار رئيس إصلاحي قادر على تشكيل حكومة جديدة، والحؤول دون تلاعب الرئيس عون وحزب الله بتشكيلها بهدف تعطيلها على غرار ما حدث مع الرئيس سعد الحريري في محاولته الأخيرة، والتي انتهت باعتذاره،حيث يُشكّل هذا الأمر في حال حدوثه مؤشراً أساسياً على نيَّة حزب الله لقيادة البلاد نحو فراغ رئاسي جديد، يؤدي في نهاية المطاف إلى تسوية رئاسية على غرار التسوية التي حدثت عام 2016، وبالتالي فرض المرشح الذي يختاره حزب الله، وقد لا يكون هذا المرشح في نهاية المطاف سليمان فرنجية أو جبران باسيل، بل شخصية مستقلة يمكن لحزب الله القبول بها انطلاقاً من قدرتها لإعادة لبنان إلى خريطة الاهتمام الدولي والعربي، ولكن دون استعداء لمحور الممانعة أو للنظامين الإيراني والسوري.
يُشكّل مثل هذا الخيار جائزة ترضية لحزب الله، ولكنه لا يحقق وعود وطموحات المرشحين السياديين، وخصوصاً لجهة إيجاد المخارج اللازمة لمطلب وحدة السلاح أو لجهة اعتماد خطة إصلاحية متكاملة تُخرج لبنان من أزماته القاتلة.
يمكن أن تفتح الانتخابات فرصة جديدة أمام القوى السيادية للمشروع في عملية إنقاذ للدولة والكيان، ولكن حذارِ من أن نضيَّعها على غرار ما فعلته مع تكتل 14 آذار، والذي تفكك بفعل قُصر النظر السياسي وبحث الأفرقاء عن مصالحهم الخاصة، وانغماسهم في الممارسات الفاسدة للسلطة برعاية وحماية حزب الله.
نسخ الرابط :