ملامح «تسوية واقعية» من اليمن إلى لبنان

ملامح «تسوية واقعية» من اليمن إلى لبنان

 

Telegram

 

بعيداً من عنتريات وعضلات الخطاب السياسي، وزحمة البرامج الانتخابية وما فيها من ديباجيات، وعناوين، وتفاصيل، وتعهدات، والتزامات، ووعود، دعونا ننزل الى أرض الواقع قليلاً ونشرّح المشهد القائم.

إذا ما تعمّقنا في الخطاب المتبادل على حلبة الاستحقاق الانتخابي تتجلّى حقيقة ساطعة، ليس في مقدور منطق الإنكار الذي بات صفة ملازمة للشريحة الأكبر من الطبقة السياسية، ان يحجبها، وهي أنّ هذا الخطاب مبني على أسس ومرتكزات رخوة، أو ركيكة أو خاوية أو مملة أو فارغة، أو بالية، او صدئة؛ أسطوانة مكرّرة أكل عليها الدّهر الإنتخابي وشرب على نشازها.

هو الكلام ذاته، لنعد سنوات الى الوراء، ونقف قليلاً على ابواب الاستحقاقات النيابية السابقة، وقارنّا البرامج الانتخابية وخصوصاّ برامج اولئك الذين يلعنون السلطة اليوم، وهم كانوا شركاء فيها سواء بعد الطائف، او بعد العام 2005، فستتبدّى برامج مستنسخة بالبنود ذاتها، وأمّا الجديد فيها فهو تجميلها بمفردات طارئة لتبدو وكأنّها تحاكي اللحظة الرّاهنة، وتقدّم أولياء تلك البرامج وكأنّهم «طرزانات» تتحدّى الأزمة، وفي أيديهم مفاتيح أبواب حلولها ومخارجها المقفلة.

المواطن بلا شك، بائس ويائس، وما يزيد من بؤسه ويأسه، انّ رهانه على «الحج خلاص» الذي يبحث عنه في غابة السياسة اللبنانية، قد خسره سلفاً:

أولاً، خسره، مع القانون الانتخابي الحالي بنسبيّته المشوّهة، وصوته التفضيلي، المانع والمحبط لأيّ فرصة تغيير، والذي أسقط الإصرار عليه، بالضربة القاضية، أي أمل بخلاص.

ثانياً، خسره، مع برامج انتخابية «مستعملة» لا «تردّ رسمالها»، ولا تعوّض ثمن الحبر الذي كُتبت فيه، وذلك لقصورها وعجزها وعدم امتلاكها قدرة العبور بالبلد الى برّ الأمان المفقود. ولقد اعتاد المواطن اللبناني على مدى الاستحقاقات الانتخابية السابقة، على انّ صلاحية تلك البرامج المسمّاة اليوم إنقاذية، تنتهي يوم الانتخاب، ومن ثم تُهمل وتُركن على الرفّ لأربع سنوات، لتعود وتُستخدم من جديد في الاستحقاق التالي. وحال استحقاق 15 ايار لن يكون بمختلف عمّا سبقه من استحقاقات.

ثالثاً، خسره، مع العقليّة الاستغلالية التي باتت تُمارس علناً وجهاراً من قِبل «مجموعات المتسلّقين على وجع الناس وجوعهم» من احزاب وغيرهم من الجماعات التي فرّخت منذ 17 تشرين الأول 2019، والتي نفخت نفسها في لحظة انتفاضة ركبت موجتها، وأصرّت على ان تنظر الى نفسها بمرايا مكبّرة، فاعتقدت انّ مساحتها عابرة للكيان اللبناني، فكبّرت حجرها بشعارات وطروحات تغييرية جذرية شاملة ضجّت بها آذان اللبنانيين على مدى سنوات، وكانت النتيجة اصطدامها بواقعها وبحجمها على حقيقته، وصَدْمَتها بأنّ تكبير الحجر سواء من جماعات او مرشحين وزن الريشة السياسية، او من مرشحين واحزاب يعتبرون انفسهم من وزن الفيل السياسي ليس فقط لا يصيب، بل لا يُقوى على حمله.

واما الصورة الفضائحية، فتجلّت عندما حانت لحظة الجدّ، بالتسليم بأمر واقع أقوى واكبر منهم، حيث قزّم هؤلاء شعاراتهم وطروحاتهم، الى لعبة التسلّق على ظهر هذا وذاك من ركّاب اللوائح، للظّفر بحاصل انتخابي يحجز لهم، ولو مقعداً واحداً، في مجلس نواب لن يكون من حيث تركيبته مختلفاً عن تركيبة المجلس النيابي الحالي، وهذا ما تؤكّده كل مراكز الدراسات والإحصاءات التي تجمع جميعها على انّ التغيير مجرد حلم، وحكاية من «حكايات ستّي».

بمعزل عن التشكيك القائم في إمكان إجراء الانتخابات في 15 آذار، وما يُحكى عن معوقات مفتعلة، وبمعزل عمّا اذا كان من بين هؤلاء، وعلى وجه الخصوص «مجموعات المتسلقين»، من يتمنّى تطيير الانتخابات لكي يتجنّب تجرّع شرب كأس نتائجها المحسومة المر، فلننظر إلى النصف الملآن من الكوب الانتخابي، ولنفترض أنّ الانتحابات حاصلة حتماً في موعدها.

الموضوعيّة تقتضي التأكيد أن ليس في الإمكان الركون سلفاً للحسم المسبق لهذه الانتخابات قبل صدور نتائجها النهائية، وبالتالي مقاربة الاستحقاق الانتخابي بالقدر الأعلى من الموضوعية والواقعية والعقلانية، بعيدا من المبالغات، وتقديرات الاستطلاعات والدراسات الانتخابية التي ترجّح بقاء الخريطة النيابية بأكثريتها الراهنة في المجلس النيابي الجديد، ستفضي تلقائياً الى مشهدين:

الأول، أن تحمل انتخابات 15 ايار تغييرات ومفاجآت غير محسوبة، تتولّد عنها نتائج تنسف الخريطة النيابية الحالية وتقلبها رأسا على عقب، وتنتزع الأكثرية من أيدي «حزب الله» وحلفائه، وتنتقل معها هذه الاكثرية من مكان الى مكان آخر. فهذه النتائج بلا أدنى شك، ستشكّل انتصاراً ما فوق الانتصار الباهر لخصوم «حزب الله»، ولكلّ الجماعات التي سعت الى هذا الانقلاب التغييري. وامام ذلك، من حق اطراف هذا الانتصار الثمين، ان يقيموا الاحتفالات والمهرجانات ويحيوا الأفراح والليالي الملاح كلّ يوم.

وتبعاً لهذا المشهد، فإنّ ثمة من يفترض انّه لن يكون أمام الاطراف المهزومة سوى التسليم أمام الاكثرية الجديدة إذا ما تحققت، بل لن تكون قادرة على تغييرها او رفض الامر الواقع الجديد الذي سيحظى بالتأكيد بحاضنة له؛ محلية ومن كل المجتمع الدولي الثاني، أن تتأكّد تقديرات الإستطلاعات والدراسات، وتأتي نتائج الإنتخابات بغير ما تشتهي سفن السّاعين الى إحداث الانقلاب التغييري. وهو كما هو معلوم، الامر الاكثر ترجيحاً، وبالتالي تبقى الاكثرية في مكانها الحالي.

وتبعاً لهذا المشهد ايضاً، فإنّ النتائج المحتملة، ستلقي في أيدي الساعين الى الانقلاب جميعهم، سؤالاً صريحاً وواضحاً: ماذا فعلتم منذ 17 تشرين الاول 2019؟ وماذا حققتم؟ وماذا ستقولون في 16 أيّار لمن تسلّقتم على أكتافهم وعلى ظهورهم وعلى آلامهم؟ وهل سيُقال للناس وعدنا وأخلفنا وعفا الله عمّا مضى؟ وهل ثمّة من سيجرؤ على قول الحقيقة؟ وهل سيسلّم هؤلاء بنتائج الانتخابات ام اننا سنشهد فصلاً جديداً من التبريرات، وإطلاقاً متجدداً لاسطوانة من نوع آخر عنوانها التشكيك بنتائج الانتخابات؟ وما هو مصير الخطاب التغييري آنئذٍ؟

لكن الوقائع الماثلة على الحلبة الإنتخابية باتت تغلّب فرضيّة على فرضيّة؛ في المشهد الأوّل، يسلّم أطراف الصراع الانتخابي بأنّ الإطاحة بالأكثريّة الحاليّة مستحيل، وهو ما بات بعض المتسلّقين على توق الناس الى تغيير يخرجهم من أزمتهم، يعترفون علناً بعدم القدرة على كسر الخريطة النيابية القائمة، واما المشهد الثاني فهو الممكن. وأيام قليلة باتت تفصل عن تحديد أي من المشهدين سيحكم الواقع اللبناني بدءًا من اليوم التالي للانتخابات، ايّ يوم الاثنين 16 أيار.

الامر الطبيعي بعد إجراء الانتخابات ان يسلّم كل طرف باللعبة الديموقراطية، ويلملم اشياءه، وينصرف الى إحصاء ارباحه التي حصدها لتثميرها، أو خسائره التي مُني بها، والدخول في مرحلة التعايش مع الواقع الجديد الذي ستفرزه هذه الانتخابات، وبالتالي التشارك في لملمة جراح البلد واهله.

لكنّنا في لبنان، فعلى ما تؤشّر الوقائع والنوايا ومواقف الخصومة، او بمعنى أدق مواقف العداوة بين المكوّنات السياسية، المأسور اصحابها في «جُوَرِها العميقة»، فأيّاً ما ستكون عليه نتائج الانتخابات، فستكون لها تداعياتها الإرباكية، وسيدخل معها البلد في ما يمكن تسميتها «خبيصة سياسيّة» تكمّل ما هو سائد في هذه المرحلة، وهذا معناه أنّ الانتخابات النيابيّة برغم ما يسبقها من خطابات ناريّة وتعبئة جماهيرية على نار الاتهامات والشعبويات، ليست سوى محطة انتقالية لمشكل اكبر بعدها. وعلى هذا المشكل قد تترتب تداعيات تهوي بالبلد أكثر، وتفتح الباب على أزمات تبدأ بأزمة تمثيل، ولا تنتهي بأزمة حكومة، وأزمة حكم ورئاسة، بل تتولّد عنها ازمة نظام، وهنا الأزمة الأخطر بالتأكيد، وحينها سيجد الجميع انفسهم وقد وقعوا في محظور أقوى منهم جميعاً، لا يستطيع احد تقدير وجهته، وأي لبنان سيؤدي إليه، وساعتئذ لن ينفع أيّاً منهم البكاء على الأطلال!في التسوية السعودية- الإيرانية المحتملة، هل هناك ما يخشاه اللبنانيون؟ تحديداً، هل صحيح ما يتردَّد عن أنّ لبنان هو الذي سيكون مادة المقايضة مع اليمن في هذه الصفقة؟

إذا نجحت التحضيرات، فسيعقد السعوديون والإيرانيون جولتهم الخامسة من المفاوضات في بغداد، قبل الفطر، بعدما كانت طهران طلبت تأجيلها قبل يومين من موعدها المقرَّر في 16 آذار الفائت، على خلفية أحكام الإعدام التي نفَّذتها المملكة آنذاك. وستكون هذه الجولة أول لقاء بين الطرفين منذ أيلول 2021.

بالتأكيد، إنّ الهدوء النسبي في اليمن وإطلاق العملية السياسية هناك وتراجع الاستهدافات الإيرانية والحوثية للمصالح الحيوية في السعودية والإمارات، هي أولى العلامات في هذا المنحى الإيجابي، وكذلك زيادة السعودية للحصّة الإيرانية من الحجّاج هذا العام. لكن العديد من المراقبين يعتبرون أنّ توقيت زيارة الرئيس السوري بشّار الأسد لأبو ظبي وعودة السفراء الخليجيين إلى بيروت هما أيضاً من علامات التهدئة مع إيران.

وبعدما جرت الجولات الأربع السابقة على مستوى الأمنيين، وبقيت مداولاتها سرّية، ثمة من يراهن على رفع مستوى الجولة الجديدة إلى مستوى الطواقم السياسية، بمشاركة أمنيين، ما يشكّل إشارة إلى احتمال تحقيق نتائج سياسية وأمنية.

ويعتقد البعض أنّ الخليجيين باتوا أكثر استعداداً لإبرام صفقة شاملة مع طهران، من منطلقات براغماتية، بعد التحوُّلات السياسية الجارية دولياً وإقليمياً، والتي دفعتهم إلى البحث عن ضمانات جديدة لأمنهم، بعد اهتزاز استقرارهم خلال الأشهر الأخيرة، على أيدي إيران والحوثيين. وقد جاءت حرب أوكرانيا لتجعل الأمر حتمياً وعاجلاً.

في رأي البعض، أنّ من مصلحة الخليجيين اليوم أن يعقدوا مع إيران «صفقتهم الخاصة»، الضامنة مصالحهم في الدرجة الأولى، بدلاً من انتظار الصفقة بين إيران والولايات المتحدة، والتي سيقوم الطرفان من خلالها بتقاسم المصالح والمكاسب، على حساب العرب عموماً.

وسيكون التحدّي العربي هو القدرة على إقناع إيران وجذبها إلى الصفقة سريعاً، واستباقاً للاتفاق الأميركي- الإيراني المحتمل. والجمود الحاصل في مفاوضات فيينا، منذ أسابيع، يمنح العرب فرصة المبادرة. كما أنّ الإيرانيين أنفسهم يعتبرون أنّ انشغال واشنطن بالملف الأوكراني يتيح لهم رفع السقف في فيينا والمطالبة بالمزيد من المكاسب في أي اتفاق، خصوصاً في ما يتعلق بنفوذهم في الشرق الأوسط. وهذه النقطة هي العثرة الأبرز أمام الاتفاق.

وفي تقدير أوساط ديبلوماسية، أنّ مصالح الخليجيين والإيرانيين تتقاطع اليوم على إبرام اتفاق تقاسمٍ في الشرق الأوسط، بعيداً من الضغط الأميركي. وهذا الموقف يلتقي مع موقف الأوروبيين، والفرنسيين تحديداً، الذين يعتبرون أنفسهم أيضاً في موقع المحاصَر أميركياً. ومن مصلحة الرئيس إيمانويل ماكرون أن يساهم في تحقيق التقارب العربي- الإيراني، ويحصِّل ما أمكن من مكاسب إقليمية، كوسيط.

فالأوروبيون أيضاً يأخذون على واشنطن أنّها تبحث عن مصالحها وتفوُّقها العسكري على روسيا، لكنها لا تكترث بالخسائر الاقتصادية والعسكرية والبشرية والسياسية التي بدأت تهزّ أوروبا واستقرارها نتيجة الحرب. ولا يستعجل الأميركيون اتخاذ أي مبادرة لحسم الموقف في أوكرانيا، ولا يقلقهم أن تتحوَّل الحرب استنزافاً في قلب القارة الأوروبية.

سيكون مطلوباً انتظار بعض الوقت لتلمّس الاتجاه الإيراني. فهل تجد طهران مصلحة في إبرام الصفقة مع السعوديين قبل اتفاق فيينا أم تُفضّل مساومة واشنطن عليها، وإبقاء الورقة صالحة للاستخدام في المواجهات الإقليمية؟

في أي حال، يعتقد المتابعون أنّ المقايضة المحتملة بين الخليجيين والإيرانيين تقوم على الآتي: تحظى العملية السياسية في اليمن بدعم الرياض، وتُقدِّم طهران في المقابل ضمانات أمنية للسعوديين والإماراتيين في اليمن، وضماناتٍ بوقف استهداف الحوثيين للمصالح الحيوية في الخليج العربي.

في الموازاة، يتمّ «تحييد» العراق نسبياً عن النفوذ الإيراني، (وفق مفهوم طهران للحياد)، وتأخذ اللعبة السياسية مداها هناك من دون تدخّلات. وتُحافظ طهران على دور سياسي في سوريا وتشارك في المشاريع المستقبلية هناك، كما تحصل على ضمانات للإبقاء على دورٍ وازنٍ لحلفائها في لبنان. وهذا ما يبدو الفرنسيون أيضاً موافقين عليه.

ويعتقد بعض المطلعين أنّ «إزاحة» تيار «المستقبل» من اللعبة الانتخابية والسياسية، أياً كانت تفسيراته، سيقدِّم خدمة لـ«حزب الله» ولخصومه على حدّ سواء. لكنه، في أي حال، سيُضعف الدور السنّي المحوري مقابل الطوائف الأخرى. وفي عبارة أكثر وضوحاً، سيعود السنّة إلى ما قبل ظاهرة رفيق الحريري والحريرية السياسية.

فحتى تسعينات القرن الفائت، كانت الزعامات السنّية مناطقيةً محدودة الاتساع (كرامي، الصلح…) ولم يصبح للسنّة تيارهم الشامل على مستوى البلد إلّا مع الحريرية. وسيشكّل سقوطها عودة للسنّة إلى زمن المناطقية، ويجعلهم أقل تأثيراً من الشيعة والمسيحيين الذين يقيمون تيارات وأحزاباً قوية وشاملة. ويُخشى أن يقود هذا الفراغ في الساحة السنّية إلى نشوء أو استحضار حالات سنّية معينة، قد يكون مخطَّطاً لها تحت عناوين مختلفة.

وثمة مَن يعتقد أنّ أي تسوية خليجية- إيرانية في ظل موازين القوى الحالية ستكرّس نفوذ «حزب الله» السياسي في لبنان، لأنّ لا وجود لأي طرف قادرٍ على تحقيق التوازن مقابل «الحزب» في الداخل، لا تحت عنوان 14 آذار ولا تحت عنوان «الثورة» و«المجتمع المدني».

وفي هذا المناخ، قد يكون الأسد لاعباً مقبولاً لأداء بعض الأدوار. وربما يوافق الأميركيون على تسوية من هذا النوع، إذا كانت تضبط التفلُّت الإيراني القائم حالياً في المنطقة، وإذا كانت ترضي إسرائيل وتسهِّل دخول الجميع في التسويات الإقليمية الشاملة، ولو بعد حين.

تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

 

Telegram