يكاد لانتخابات 15 أيار 2022، المحشوّة شعارات وأوهاماً بلا أي قضية، عنوان واحد ليس إلا: كيف سيخرج الأفرقاء ولوائحهم منها؟ أيّ أحجام ستفضي إليها الكتل المأمونة عودتها إلى البرلمان الجديد؟ وماذا لو لم يكن إلا ثمة رابح واحد؟
عندما فسّر الرئيس نبيه بري «الميثاقية»، عام 2006، وكانت المرة الأولى منذ تطبيق اتفاق الطائف تثير جدلَين دستورياً وسياسياً، قدّم هدية ثمينة الى الطوائف الثلاث الممثّلة للمثالثة في النظام. لقي تفسيره سجالاً متشعباً مذذاك ولا يزال بين مؤيد ومعارض، ولم يسرّ كلامه ذاك المتعاطين في الشأن الدستوري أو الباحثين فيه. من آرائهم أن رئيس البرلمان اجتهد في تفسير بند دستوري لا يحتاج الى تفسير، تنص عليه الفقرة «ي» في مقدمة الدستور بتناولها شرعية العيش المشترك، فأضحت «ميثاقية». بعض الآراء نظر الى هذا التفسير على أنه تعطيل للدستور وتجميد لأحكامه وربط للسلطات، لا الصلاحيات فقط، بالطوائف.
بالممارسة، طوال أكثر من عقد ونصف عقد من الزمن، استقر تفسير الميثاقية هذه، طوعاً أو بالإكراه، في صلب الأداء السياسي للأفرقاء الذين جرّبوها تباعاً، وكل منهم خرج ظافراً فيها، مقنعاً الآخرين. يوم وصف برّي، إثر استقالة الوزراء الشيعة الخمسة عام 2006، حكومة الرئيس فؤاد السنيورة بـ«البتراء»، رافضاً استقبال مجلس النواب أي إحالة لأي مشروع قانون يصدر عنها، كان في الوقت نفسه يرسم ملامح توازن سياسي جديد بأداة دستورية. هذه المرة عوض إخضاع السياسة للدستور، قلب رئيس المجلس المعادلة رأساً على عقب، فجعل الثاني يلحق بركاب الأولى.
ما عناه تفسير الميثاقية حينذاك، وكانت تطبّق أولى تجاربها على الطائفة الشيعية، عدم إخراج أي طائفة رئيسية من معادلة التوازن السياسي الداخلي ــــ مهما تكن الذرائع والدوافع ــــ المفضي الى انهيار الاستقرار والسلم. ومن غير المستبعد من ثم العودة الى الصدام الأهلي.
مع أن خصوم رئيس البرلمان عارضوا تفسيره، وأصرّوا على دستورية حكومة السنيورة تلك، إلا أنهم اكتشفوا لاحقاً مغزى الهدية الثمينة التي قدمها إليهم. بعدما استقالت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي عام 2013، وكان على مجلس النواب الالتئام، تذرّع بها الزعماء السنّة وشرّعوا تفسير الميثاقية على النحو الذي قدمه برّي. لم يلتئم البرلمان أكثر من مرة لمقاطعة السنّة مثول حكومة مستقيلة أمامه، بحجة أن مثولاً كهذا يخدم خصومهم لتعطيل تأليف حكومة جديدة، والاعتداء على صلاحيات رئيس مجلس الوزراء. مذذاك، باتت كل جلسة للبرلمان تغيب عنها طائفة تُحسب غير ميثاقية، فتُعطل سلفاً. تفشّت العدوى، فلم تكتفِ بالانتقال الى مجلس الوزراء متى غاب وزراء طائفة معينة.
شاع المفهوم نفسه، وراح يحط كل مرة في مكان. آخر الحالات ما كان يرافق الاستشارات النيابية الملزمة إذا أحجم عدد كبير من نواب طائفة عن تسمية مرشح لرئاسة الحكومة، فإذا التكليف يصبح غير ميثاقي، أو تسمية رئيس مكلف ليس الأول والأقوى في طائفته.
المسيحيون بدورهم استفادوا من هدية برّي إبان الشغور الرئاسي بين عامَي 2014 و2016، عندما رفضوا الذهاب الى انتخابات نيابية عامة كان مفترضاً حصولها عام 2014 بعد تمديد 2013، ما لم يُنتخب رئيس جديد للجمهورية أولاً.
أكثر من أن تحصى الأمثلة على رفع جرس الميثاقية لدى أي من المذاهب الثلاثة تلك، الشيعة والسنّة والمسيحيين، مجرّبي الميثاقية بتفسيرها المحدث. لم يُتح مرة، على مر هذا الوقت، أن يمتحن الدروز ــــ وهم طائفة مؤسّسة للكيان اللبناني ــــ الميثاقية. ولا طبعاً سائر المذاهب المسيحية سوى تلك المنخرطة في المثالثة.
طوال الحقبة السورية عندما حكمت لبنان، وكانت دمشق صاحبة إرادة فرض تطبيق اتفاق الطائف، لم تُثر مرة الميثاقية تحت أي عنوان أو ذريعة، وخصوصاً إبان انتخابات 1992، عندما خرجت الأحزاب المسيحية الرئيسية منها وقاطعتها، فلم يُؤبه بها. سواء بفعل قبضتَيها الأمنية والعسكرية، كما بقبضاتها الأخرى على الرئاسات والسلطات والجيش، لم يكن من باعث على الخوض فيها. وضع السوريون أيديهم، في السلطتين الاشتراعية والإجرائية، على نصابيهما العادي والموصوف، فكان لهم رجالهم في كل الطوائف وفي كل أطوار الحكم، رجحت كفتهم على المعارضين والمبعدين عن السلطة. من دون أن تُتهم بذلك، أمسكت سوريا بميثاقية الطوائف والنظام برمته. بخروجها من لبنان عام 2005، رجّحت الكفّة المعاكسة بأن صعد المعارضون وهبط الموالون، فاختلّ الاستقرار واستعر مذذاك التناحر المذهبي السنّي ــــ الشيعي الذي أضحى المُعادل الوحيد لانفجار البلد.
واقع الأمر أن ميثاقية برّي خَلَفَت المرجعية التي مثّلتها سوريا في هذا البلد. ذلك ما كان يجعل رئيس المجلس وحزب الله يبرّران دعمهما الرئيس سعد الحريري في كل حين، ويحرصان على إحاطة نفسيهما بحليف أو شبه حليف مسيحي. بينما تكفّل برّي بوليد جنبلاط وأراحه استمرار مراعاة حزب القوات اللبنانية له على وفرة حملاته على شريكه في الثنائي الشيعي، راح حزب الله يعزز تحالفه مع الرئيس ميشال عون والتيار الوطني الحر ويوازن ما بينه وبين سليمان فرنجية.
لأن تفسير الميثاقية ذاك، أولى الأهمية للتوازن السياسي الداخلي لا لحكم السلطات والمؤسسات، وحتماً على حساب الدستور الى حد كبير، أتاح تأليف حكومات الوحدة الوطنية وانتخاب برلمانين (2009 و2018) ينشدان هذا التوازن. أتى انتخاب الرئيس ميشال عون عام 2016 في معرض الاجتهاد من داخل الاجتهاد، أو في أحسن الأحوال التوسع فيه، بربط الميثاقية بأولئك الأكثر تمثيلاً لطوائفهم كي يتقدموا سلطات المثالثة. لم يكن ثمة بديل من برّي لرئاسة البرلمان، إلا أن المعضلة أحاطت بالرئاستين الأولى والثالثة. مذذاك أضحت الرئاسات الثلاث على صورة الميثاقية.
ما يتردد في هذه الأيام، على أبواب الانتخابات النيابية العامة في 15 أيار، أن حزب الله لم يعد يكتفي بجدوى تفسير الميثاقية، وبات يحتاج إليها كلها بين يديه، تأكد من امتلاكه الغالبية النيابية العادية التي لا يزال يحتفظ بها منذ انتخابات 2018. لم يعد خافياً أنه في طور الوصول إليها، مستفيداً من فائض قوته من جهة، ومن الأخطاء الجسيمة التي يوفرها له الحلفاء كما الخصوم:
ــــ قلق جنبلاط وهو يخوض الانتخابات كما لو أنها كيانية ووجودية لطائفته، وشعوره باحتمال خسارته نصف مقاعدها، أولى العلامات.
ــــ إخراج الحريري نفسه من الحياة السياسية، ومنعه تياره من خوض الانتخابات ما يعرّض طائفته جزئياً ــــ وربما أكثر ــــ للتسيّب والفوضى علامة ثانية.
ــــ الحروب الأهلية المسيحية الدائرة بين التيار الوطني الحر وحزب القوات اللبنانية، وبينه وبين تيار المردة، وبينه وبين المسيحيين المستقلين، علامة ثالثة تجعل حزب الله شريكاً غير منظور في هذه الحروب وأحد أسلحتها.
إذذاك، تمسي الميثاقية عند حزب الله وحلفائه، الضعفاء كخصومه الضعفاء، من باب لزوم ما لا يلزم.
نسخ الرابط :