د. سامي كليب*
ما كشفته اليوم صحيفة “وول ستريت جورنال” عن مفاوضات سرية بين واشنطن ودمشق لإطلاق سراح معتقلين أميركيين، يندرج في سياق أوسع من العروض والمفاوضات والصفقات التي خيضت بين واشنطن وخصومها على مدى السنوات الماضية من بيروت ودمشق الى طهران وموسكو، خلافاً لكل ما يقال في العلن.
ماذا في المعلومات أولاً؟
الصحيفة الأميركية نقلت عن مسؤولين أميركيين بان كاش باتل، كبير مسؤولي البيت الأبيض ونائب مساعد الرئيس الأميركي لشؤون الإرهاب، كان قد زار في خلال العالم الجاري (2020) دمشق بغية الإفراج عن الضابط السابق في قوات المارينز، أوستن تايس (كان يعمل بهوية صحافي)، ومجد كم الماز الأميركي السوري الذي يعمل في مجال الطب النفسي، إضافة إلى 4 مواطنين أميركيين آخرين.
باتل كان قد نجح في عقد صفقة بين واشنطن وأنصار الله الحوثيين، الذين أفرجوا عن إثنين من المحتجزين الأميركيين مقابل الإفراج عن 200 شخص من أتباع الحوثيين.
مدير عام الأمن العام اللبناني، اللواء عباس إبراهيم، يلعب حالياً أيضاً دور الوساطة بين دمشق وواشنطن خصوصاً بعدما كان قد ساهم في الإفراج عن المواطن الأميركي سام غودوين، الذي بقي محتجزاً في سوريا لأشهر طويلة. كما أن اللواء إبراهيم، الموثوق من قبل الأطراف الثلاثة أي أميركا ودمشق وحزب الله، كان قد ساهم في الإفراج عن الأميركي اللبناني نزار زكا، الخبير في تكنولوجيا الإتصالات والذي بقي محتجزاً لسنوات في طهران بتهمة التجسس، وهو الذي إصطحبه معه في الطائرة.
هذه ليست المرة الأولى التي تحصل فيها مفاوضات أميركية مع المحور المناهض لها، فالإتصالات الأمنية لمكافحة الإرهاب والإفراج عن رهائن اميركيين لم تنقطع طيلة السنوات الماضية، وشملت العراق وسوريا ولبنان واليمن. نذكر مثلاً أنه في الصيف الماضي تم تبادل العالم الإيراني سايروس عسكري مع الجندي الأميركي السابق مايكل وايت الذي بقي محتجزاً في إيران لنحو عامين بتهمة إهانة المرشد. ولم يكن تسهيل هروب العميل عامر فاخوري من لبنان إلى أميركا، حيث توفي قبل فترة قصيرة، الا في اطار صفقة لبنانية أميركية.
في المعلومات أيضاً أن واشنطن عرضت قبل عامين على طهران صفقة كاملة في سوريا تقضي بإنسحاب الطرفين، مقابل مساهمة القيادة الإيرانية في تهدئة الأوضاع في الداخل الفلسطيني بعد تظاهرات الدواليب المحروقة عند الحدود الفلسطينية – الإسرائيلية ونذر تفاقم الأمر إلى مواجهات شاملة. وبقي التواصل متقطعاً لكنه لم ينقطع بين إيران وأميركا بفضل وساطات عديدة من عُمان إلى سويسرا وغيرهما، لكنه لم يؤد إلى أية إختراقات حقيقية. وكان أمين عام حزب الله، السيد حسن نصرالله، تحدث قبل فترة أيضاً عن عروض أميركية كبيرة للحزب تقبل بتسلمه مقاليد واسعة في حكم لبنان لو قبل بتسليم سلاحه وعقد سلام مع إسرائيل.
تبنت القيادة السورية منذ بداية الحرب مبدأ واحداً في التفاوض مع الخصوم يقول أن لا خطوات إيجابية سورية بإتجاه الخصوم إذا بقي التفاوض محصوراً بالجانب الأمني، فكل دولة تريد التفاوض بشأن رعاياها عليها أن ترفع مستوى التمثيل إلى التمثيل الدبلوماسي. لكن هذا لم يمنع حصول لقاءات أمنية عالية المستوى خصوصاً بين اللواء علي المملوك وكبار مسؤولي المخابرات في الدول الغربية من فرنسا وألمانيا إلى أستراليا وأميركا وغيرها.
ماذا في التحليل ثانياً؟
في كل حروب وأزمات العالم، يجري تفاوض بين المتحاربين. هذا ليس جديداً، فمسائل تبادل الرهائن والجثث وتأمين المعابر وغيرها تبقى أموراً قائمة رغم الحروب. وكانت مؤشرات الإنفراج قد أوحت بتقارب بين المحورين، إلا أن قتل أميركا لقائد فيلق القدس اللواء قاسم سليماني، والذي كان الهدف منه مثلث الأضلاع: رسالة أمنية لإيران، ورسالة طمأنة لإسرائيل والخليج، ومحاولة لجلب طهران بالقوة إلى طاولة المفاوضات، عقَّد الأمور وقطع الجسور. صارت القيادة الإيرانية أكثر تشدداً في التجاوب مع أي مسعى للتفاوض، وأعلنت غير مرة أنه لم ولن تكون مفاوضات مع الرئيس دونالد ترامب وإدارته.
حالياً، ثمة ضبابية كبيرة في المشهد الأميركي لجهة الفائز المحتمل في الإنتخابات الرئاسية. من الطبيعي إذاً أن تفكر دول المحور المواجهة لواشنطن بالتروي قبل القبول بأي عرض أو صفقة، لكن لا بأس من تمرير بعض الأمور الصغيرة التي لا تؤثر في المسار الإستراتيجي.
يلاحظ أنه مع التشدد الإيراني حيال التفاوض مع الرئيس ترامب، قال الرئيس السوري، بشار الأسد، مؤخراً في مقابلته مع الإعلام الروسي كلاماً عالياً ضد أميركا خصوصاً بعد تسريب المعلومات عن نية سابقة للرئيس ترامب بإغتياله، (إذ) قال الأسد “إذا لم يغادر الأمريكيون والأتراك فإن الأمر الطبيعي الذي ينبغي أن يحدث هو المقاومة الشعبية. هذه هي الوسيلة الوحيدة. فهم لن يغادروا عن طريق النقاش أو عن طريق القانون الدولي طالما أنه غير موجود؛ وبالتالي، ليس لديك أية وسيلة أخرى غير المقاومة، وهذا ما حدث في العراق. ما الذي جعل الأمريكيين ينسحبون عام 2007؟ لقد كان ذلك نتيجة المقاومة الشعبية في العراق.”
لكن الرئيس الأسد وحليفيه، الإيراني وحزب الله، يعرفون تماماً أن هكذا قرار بمقاومة جدية ضد الأميركي تحتاج إلى غطاء روسي، وهذا حتى الآن على الأقل غير متوفر. فـ “موسكو فلاديمير بوتين” تريد الإستمرار بالتنسيق مع “واشنطن ترامب” حتى نهاية عهده، ذلك أنه كان أفضل الرؤوساء الأميركيين بالنسبة لها حتى لو شابت العلاقة بينهما تعقيدات.
القيادة السورية تراعي جداً هذا الإعتبار الروسي، فمن غير الجائز أن يُقدم الرئيس الأسد مثلاً على صفقة كبرى مع الأميركيين حتى لو أفضت إلى انسحابهم من سوريا دون تنسيق مع الروس. وهو إذ شعر ويشعر في محطات عديدة بـ “الإنزعاج” من عدم تلبية الروس لرغبته بالإستمرار في المعركة العسكرية في عدد من المناطق المفصلية، مثل إدلب، الا أنه لن يذهب للبحث عن بديل عن حليف وقف إلى جانبه في أقسى الظروف وساهم في إستعادة معظم المدن الكبرى منذ إنخراط روسيا العسكري في الحرب قبل خمس سنوات.
ماذا عن المستقبل ثالثاً؟
لدى المحور المواجه لأميركا حالياً شعور بأن الحضور الأميركي في المنطقة إلى تراجع أو افول، وأن تمرير هذه المرحلة الصعبة والعض على جروح كثيرة مهم. فليس في المنطقة إلا إحتمالين، الصفقة الكبرى أو الحرب الضروس ولا أحد يريد الحرب، وإنما الجميع ينتظر ظروفاً أفضل للصفقة.
هذا يُذكرنا بفترة الإنتخابات الرئاسية الفرنسية، بين اليميني جاك شيراك والإشتراكي فرانسوا ميتران، فآنذاك كانت طهران تستقبل سراً وفدي المُرشّحين، وتتفاوض مع كل منهما حول صفقة الرهائن الفرنسيين في لبنان، وأهدت الصفقة للذي فاز وبشروط مناسبة للطرفين.
لكن إنتظار الإنتخابات الأميركية، لا يمنع الإبقاء على خيوط مع الرئيس ترامب، لعله بقي في السلطة. من هذا المنطلق مثلاً يُمكن فهم “الهدية” التي قدمها له الثنائي الشيعي عبر القبول بالتفاوض على ترسيم الحدود. كان يُمكن تأجيل الأمر إلى ما بعد الانتخابات ليأخذ زخماً أكبر، لكن رئيس المجلس النيابي، نبيه بري، أراد تحقيق مكاسب عديدة من هذا الأمر، أهمها درء الهجوم الأميركي ومغازلة إدارة الرئيس ترامب، وسحب البساط من تحت أقدام خصوم الداخل، وتسريع عملية التنقيب عن الغاز على أساس أنها تبعث شيئا من الأمل الداخلي.
لا يستطيع أحد ان يغالي في إبراز قوته. الجميع بحاجة الى التفاوض لا الحرب. لكن الخطوات المتسارعة في المنطقة، من توسيع دائرة التطبيع العربي مع إسرائيل، إلى توسع الدورين التركي والإيراني، إلى الإنسحابات الأميركية من أفغانستان والعراق وقريباً سوريا، وصولاً الخطط والمشاريع الكبرى والصراعات الكامنة والمعلنة بشأن معابر التجارة والنفط، ثمة أمور كبيرة تتغير في المنطقة تذكرنا بما بعد الحرب العالمية الثانية.
هذا يفترض على دول المنطقة أن تكون جزءاً من المشهد المقبل أو ضحية له. لذلك، فما بعد الإنتخابات الأميركية سيكون حتماً مفتوحاً على التفاوض والصفقات والتنازلات المتبادلة، الا إذا كان أحد الأطراف يريد أن يكون إنتحارياً ويشعل المنطقة بحرب ستكون كوارثية على الجميع. لكن هذا المشهد لن يقتصر على أطراف المنطقة هذه المرة وانما سيكون جزءاً من لعبة التوازنات الكبرى بين أميركا وروسيا والصين وأوروبا.
من هذا المنطلق، فلو عاد الرئيس ترامب أو فاز جو بايدين فإن الطرفين محكومان بالتفاوض لا الحروب، أما الأسابيع المقبلة فقد تشهد بعض التوترات في العراق وسوريا ولبنان، لأن هذه التوترات جزء من التمهيد للتفاوض لا للحروب، وما حصل في لبنان من تفجير المرفأ إلى إشعال مستودع لحزب الله في عين قانا، وما يحصل حالياً في العراق وفي الشمال الشرقي لسوريا، هي آخر أوراق الضغط الترامبية والإسرائيلية إستعداداً للمشهد المقبل.
*كاتب وإعلامي – لبنان
المصدر: موقع 5 نجوم.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :