مسافة 17 عاماً تفصل بين وقوف سعد رفيق الحريري عند الحفرة التي أحدثها التفجير الكبير الذي أدى إلى اغتيال والده في 14 شباط 2005 وبين وقوفه قبل أيام عند ضريحه في وسط بيروت قرب جامع محمد الأمين بعد عودته إلى لبنان، وبين إعلانه أمس تعليق العمل بالحياة السياسية والعزوف عن الترشح إلى الإنتخابات.
قبل 17 عاما قرأ سعد الحريري الفاتحة في ساحة مسرح الجريمة وكان يدرك أن أعباء الدور الذي كان يضطلع به والده قد ألقيت عليه وأنه أهل لهذه المهمة واعداً بأن بيت الحريري لن يقفل لأن الذين اغتالوه يريدون أن يقفلوه وكان يعرف من دون شك أن الأعباء التي تُرتِّبها هذه المسألة ليست بسيطة وبالتالي كان يجب أن يعرف أن المواجهة صعبة ومحفوفة بالخطر وأن ما حصل مع والده يمكن أن يحصل معه. ومع ذلك أقدم وبادر. ولكن مع مرور السنوات سجل خطوات تراجعية حتى حانت اللحظة لكي يخرج نفسه من اللعبة ويتخلى عن القسم الذي أطلقه من ساحة الجريمة.
التبريرات الكثيرة التي يتخفّى وراءها الرئيس سعد الحريري لتبرير هذا الخروج، لا تقنع جمهور تيار المستقبل الذي ورثه أيضا عن والده ولا يزال يتعلّق بصورة رفيق الحريري وطيفه أكثر مما يتعلّق بسعد. ولا تقنع أيضا بيئته والشارع السني ولا القيادات التي تكوكبت حوله على مدى تلك الأعوام وظلّت تنظر إليه على أساس أنه الوحيد القادر على الجمع والإستقطاب على رغم احتسابهم ارتكابه أخطاء كثيرة من دون أن يكون هدفهم محاسبته. فأي من هؤلاء لا يمتلك القدرة ولا الحظوة لامتشاق راية القيادة التي يبدو أن سعد الحريري نفسه لا يريد أن يسلّمها لأحد.
منذ انتقل من قصر قريطم إلى بيت الوسط كان سعد الحريري يريد ربما أن يرسم طريقه إلى الحكم والسلطة ولكنه لم يشبه رفيق الحريري. والتشبيه بين الرجلين لا يمكن أن يستقيم نظراً لاختلاف المرحلتين والحسابات السياسية والأشخاص. قصر قريطم عرف طريق صعود رفيق الحريري وبيت الوسط عرف طريق خروج سعد الحريري. أتى رفيق الحريري إلى السلطة الفعلية في العام 1992 رئيساً للحكومة ولكنه كان يتعاطى الشؤون اللبنانية من موقع القوة كممثل لخادم الحرمين الشريفين ملك المملكة العربية السعودية منذ أيام الملك فهد وتحديداً منذ العام 1978. لعب دوراً أساسياً في اتفاق الطائف وكان يهدف إلى أن يكون طريقه نحو القيادة في لبنان ولو في ظل عهد الوصاية السورية. كان رفيق الحريري يدرك صعوبة المواجهة تلك ومع ذلك بادر وخاض معارك كثيرة ولم ينهزم بل حقق مكاسب وانتصارات كثيرة وكان لا ينسحب من الحياة السياسية تحت قوة الضربات الموجهة إليه وكان يعرف متى ينسحب ومتى يعود إلى اللعبة من موقع القوة وهذا ما أدى في النتيجة إلى قرار اغتياله الذي كان الهدف منه القضاء على ما يمثله من عناصر القوة الشخصية والدور في لبنان والمنطقة.
سعد الحريري لم يمتلك هذه الصفات. لم يتدرج في تحمل المسؤولية بل وجد نفسه فجأة في قلب صراع كبير لم يختبر محاوره ولا أسراره ولا الشخصيات الفاعلة فيه سواء تلك المتحالفة معه أو على عداء وخصومة. خاض مواجهات كبيرة ولكنه كثيراً ما اختار الإنحناء. لم تكن لديه صلابة رفيق الحريري ولا شخصيته ولا الإمتدادات التي بلغها على صعيد العلاقات الدولية والعربية ومع أن ابوابا كثيرة كانت مفتوحة لرفيق الحريري لم تقفل في وجه ابنه سعد إلا أنه بقي مقصراً في لعب الأدوار الكبيرة. خروج سعد الحريري اليوم من اللعبة السياسية يشبه خروج قائد من المعركة بينما جيشه لا يزال مستعداً للقتال ويشبه إعلان الخسارة في حرب لمن تنته ولا تزال عناصر القوة والفوز متوفرة فيها.
المفارقة الكبرى في هذا الخروج التراجيدي أن سعد الحريري لا يريد أن يتصدى أحد غيره للقيادة. في الأساس القيادة لا تكون أبدا هدية ولا تقدم لأي كان وكيفما كان. ربما هذا ما يجب أن يكون في داخل الطائفة السنية التي لم يخرج من بين صفوفها من يقول إنه القائد أو أن يبدأ على الأقل في رفع هذه الراية.
عندما يعزف سعد الحريري عن الترشح وعن القيادة وعن السياسة فهذا يعني أنه حر في قراره وأنه قرر أن يبتعد وأن يعود إلى ما قبل 14 شباط 2005 متصالحا مع نفسه. ولكن الساحة لا يجب أن تبقى فارغة. مع الأخذ بالإعتبار أن الخروج من اللعبة بهذه الطريقة قد يعني أن العودة إلى الملعب قد تكون مستحيلة.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :