لم يكن مفاجئاً التهاب المحاور السياسية مع الدخول الرسمي في مرحلة الحملات الانتخابية، الّا انّ المفاجأة أتت من مكان آخر، وتحديداً من تفاعل الاوساط الشعبية البارد مع العناوين المثيرة التي تمّ إطلاقها.
فلقد درجت العادة، وخصوصاً خلال الحملات الانتخابية لمرحلة ما بعد الخروج السوري من لبنان، على إثارة العصبيات والغرائز الطائفية والمذهبية الى الحدّ الأقصى لرفع نسبة المؤيّدين في صناديق الاقتراع. ولكن، وبعد انتهاء الانتخابات يبدأ يوم آخر. ومع حسم موضوع اقتراع المغتربين ودعوة الهيئات الناخبة، فإنّ العدّ العكسي لفتح صناديق الاقتراع يكون قد بدأ.
كل فريق اختار عنوان حملته الانتخابية، والتي تهدف الى شحن نفوس الجزء الأكبر من الناخبين. «القوات اللبنانية» اختارت خطاب المواجهة مع «حزب الله» ومع سلاحه، وايضاً الإضاءة على التناقضات التي سجّلتها المسيرة السياسية لـ»التيار الوطني الحر» في المجلس النيابي والحكومة وفي رئاسة الجمهورية.
في المقابل، فإنّ رئيس «التيار الوطني الحر» اختار خطاب المواجهة مع الرئيس نبيه بري، تماماً كما فعل قبل اربع سنوات، حين وصف باسيل بري «بالبلطجي»، وسيحاول باسيل ان يكون اكثر قساوة في خطابه مع إضافة بعض «التلطيشات» على «حزب الله». لكن المشكلة انّ «التيار الوطني الحر» سيخوض الانتخابات بالتحالف ووفق لوائح مشتركة مع «حزب الله»، وهو ما يُبحث منذ فترة بين اللجنتين الانتخابيتين للتيار والحزب. وهذا ما يهدّد «المكاسب» المطلوبة من الحملة الانتخابية.
وفي الوقت نفسه، سيرفع باسيل مستوى المواجهة مع حزب «القوات اللبنانية»، آملاً في إعادة فرز المسيحيين وجعلهم يصطفون في معسكرين، بهدف استعادة الشريحة التي تناهض «القوات» والتي تركت ساحة التيار نهائياً في 17 تشرين 2019.
أضف الى ذلك، انّ استعادة لغة التنازع بينهما ستدفع بعدد من القوى المتخاصمة مع «القوات» لدعم التيار انتخابياً. اما تيار «المستقبل»، والذي ينتظر عودة رئيسه سعد الحريري، فهو اختار خطاب المواجهة مع «حزب الله»، اولاً لمردوده على الساحة السنّية، وثانياً لقطع الطريق على الخطابات التي يطلقها في هذا المجال الراغبون بوراثة سعد الحريري.
اما «حزب الله» غير القلق على قاعدته الشعبية، فهو سيركّز خطابه على وجود «خطة» غربية لإضعافه بغية الإطباق عليه وعلى القرار الشيعي لاحقاً. وانّ هذا الخطر الوجودي يتطلب التعبئة القصوى والاقتراع الى الحدّ الأقصى. ووفق هذه الصورة سيستمر تصاعد الحماوة في الشحن السياسي والخطابات وصولاً حتى يوم الاقتراع.
وعلى الرغم من التشكيك الدائم باحتمال حصول الانتخابات، فإنّ الفرنسيين يؤكّدون انّ هذه الانتخابات حاصلة. طبعاً التشكيك الموجود له ما يبرّره إن بسبب تجارب سابقة، او بسبب النية التي يضمرها معظم القوى والاحزاب السياسية القلقة من خسارة ستصيب أحجامها النيابية والتي تريد تأجيل الانتخابات النيابية. لكن الفرنسيين المستندين الى قرار دولي حازم،
وفي الوقت نفسه يتواصلون بشكل مباشر مع «حزب الله»، يعتقدون انّ الانتخابات ستحصل في موعدها. ولا بدّ ان يكون هذا الاعتقاد الفرنسي يستند الى الاتصالات المعلنة وغير المعلنة التي تتولّاها فرنسا في هذا الإطار.
صحيح انّ الاتحاد الاوروبي سيتولّى تقديم المساعدة لسدّ الثغرات التقنية وحتى المالية، إلّا أنّ ثمة اسئلة لا بدّ من طرحها في هذا الإطار.
السؤال الاول، ويتعلق بالشحن الطائفي والمذهبي، وسط ساحة تعيش كافة انواع الانهيارات والفقر والعوز، ما يضاعف من منسوب التوتر. أضف الى ذلك، الإرهاق الذي يصيب القوى العسكرية والأمنية نتيجة انهيار قيمة الرواتب والمهمات الاستثنائية الموكلة اليها منذ اكثر من سنتين وبشكل متواصل، وبالتالي فإنّ هذا الوضع يرفع مستوى القلق من أحداث دموية قابلة للحصول وبنحو متنقل بين المناطق.
أضف الى ذلك، استعادة تنظيم «داعش» حيويته في المنطقة، والذي على ما يبدو، مطلوب له ان يعاود ظهوره ليواكب مسار إعادة رسم الخريطة السياسية في الشرق الاوسط.
صحيح انّ الساحة اللبنانية لا تشكّل حتى الآن منطقة عمليات للتنظيمات المتطرفة، لكن لفت سقوط قتيلين من طرابلس كانا يقاتلان الى جانب «داعش» في العراق. والأهم انّ هذين القتيلين كانا قد تسلّلا الى العراق مع مجموعة اخرى من الشبان بعيداً من الرقابة الأمنية. واستطراداً، قد تجد مجموعات متطرفة أنّ الظروف باتت مهيأة في لبنان للقيام بعمليات ارهابية. والمناخ الذي سيخلفه الخطاب الانتخابي المتشنج والغرائزي سيكون مثالياً لذلك.
والسؤال الثاني، هو حول عودة الاهتمام السعودي بالساحة اللبنانية، وبالتالي، هل سينسحب ذلك على الانتخابات النيابية، خصوصاً انّ الساحة السنّية تعيش حالة من الفراغ الفوضوي؟
ومن هذه الزاوية يُفهم سعي وليد جنبلاط وايضاً الرئيس نبيه بري، لعودة الرئيس سعد الحريري الى لبنان للمشاركة في الانتخابات النيابية وملء الفراغ الذي تعانيه الساحة السنّية. ذلك انّ هنالك من يخشى ان تعمد القوى المتحالفة مع السعودية الى سحب البساط الشعبي بكامله من تحت القيادات السنّية التقليدية وعلى رأسها تيار «المستقبل»، وأخذها الى مكان آخر.
اما السؤال الثالث، فهو يتعلق بمجموعات الحراك او ما بات يُعرف بقوى التغيير.
فإذا كان هنالك من خيط يربط بين القوى السياسية على مختلف مشاربها ومواقعها، فهو المتعلق بضرورة «خنق» هذا المكوّن وقطع الطريق عليه. ومن هنا، فإنّ أخذ الحملات الانتخابية الى نزاع سياسي ومذهبي وطائفي سيؤدي الى تقليص المساحة التي يمكن ان تقف عليها قوى التغيير، مع ما يعني انّ رفع منسوب الحماوة سيصبّ لمصلحة هذه النظرية.
لكن في الواقع، فإنّ تجاوب الناس مع الحملات السياسية للقوى التقليدية كان بارداً. اضف الى ذلك، انّ الكوارث التي يعيشها اللبنانيون نتيجة الانهيارات المختلفة وخصوصاً الانهيار المعيشي، انما تضع في اولوية الناس موضوع فساد الطبقة السياسية وضرورة إزاحتها بما ومن تمثل.
على سبيل المثال، وبعد ندوة النائب جبران باسيل والتي تضمنت كلاماً غرائزياً عالي السقف، تولّت مجموعة متخصّصة تسجيل انطباعات الناس في الشارع المسيحي وعبر الهاتف، ومدى التأثير الذي أحدثه كلام باسيل لديها. لكن المفاجأة جاءت مع اعلان غالبية المستطلعين، انّهم لم يتابعوا ندوة باسيل رغم وجودهم في المنزل، وفضّلوا مشاهدة برامج تلفزيونية اخرى. وهو ما يعني عدم اكتراث الناس او ربما عدم ثقتهم بالخطاب الذي تعلنه الطبقة السياسية الحالية.
وهذه النقطة تلعب لصالح «التغيريين» شرط نجاحهم في التوحّد، رغم انّ الوقائع تشير الى خلافات عاصفة بينهم، ما يهدّد فرصتهم في تحقيق إنجاز انتخابي.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :