بأي ثمن، ستتجنَّب منظومة السلطة أن يَطير البلد من يديها في الانتخابات، النيابية ثم الرئاسية. ولذلك، أعدَّت العدَّة لإمرار «القطوع» بلا خسائر مُهمّة. بل إن محور إيران يريد تحقيق مكاسب إضافية، وتلقين الخصوم درساً جديداً: «كفاكم هزائم. بعدَ اليوم، لا تُجرِّبونا»!
في المبدأ، ستكون الانتخابات النيابية، ثم الرئاسية، محطة رابعة أساسية للتغيير. وسيكون الرهان هذه المرَّة على صناديق الاقتراع.
- المحطة الأولى كانت «انتفاضة» 17 تشرين الأول 2019، وقد كان الشارع أداتَها. وهي بلغت ذروة القوة والاتساع حتى ظنَّ الكثيرون أنها أوشَكت على الانتصار، ولكن، تمَّ إحباطها بعد أشهر قليلة.
- المحطة الثانية كانت انفجار المرفأ في 4 آب 2020، وكان يُفترض أن يكون الشارع أداتَها أيضاً، ولكن فشلت المحاولة. والآن، يُفترض أن يكون القضاء هو الأداة البديلة. ولذلك، يتعرض القضاء لضغط هائل لتعطيل دوره وإحباط أي مفاعيل سياسية يمكن أن يقود إليها.
والنموذج الذي تعتمده القوى النافذة لإسقاط دور القضاء في ملف المرفأ هو نفسه المعتمد في ملفات الاغتيال ومحاولات الاغتيال التي جرت بدءاً من العام 2004، وأبرزها ملف 14 شباط 2005. فبعد سنوات من الاستنفار في لاهاي، جاء الحكم تقريباً «لا شيء».
- المحطة الثالثة ليست حدثاً معيناً بل حالة مستمرة ومتنامية. إنها الانهيار المالي والنقدي والاقتصادي، ونَهبُ ودائع الناس وضياع رواتبهم وتعويضاتهم، ما أدى إلى سقوط قسم كبير منهم في الجوع الحقيقي. وعلى رغم أن «الجوع كافر»، فهو لم يدفع إلى انتفاضة شعبية تُحقِّق التغيير، والأسباب كثيرة.
اليوم، يُطرَح السؤال: هل هناك معطيات ملموسة تسمح بخروج قوى التغيير من وضعية الفشل التي تخبّطت فيها ولا تزال، والتي لم ينفع «الجوع الكافر» في إخراجها منها؟ وهل تمتلك هذه القوى عُدَّة كافية وخُططاً متماسكة لمواجهة قوى السلطة، ما يتيح لها إحداث تغيير ملموس في الانتخابات؟
وفي الخلاصة، هل تستطيع هذه القوى أن تشرح للرأي العام ما هي المبرّرات المنطقية التي تسمح هذه المرّة بتحقيق تغيير «مقبول» في الانتخابات، بعدما فشلت كل رهاناتها الأخرى حتى الآن؟
الخبراء يقولون إن هناك خللاً بنيوياً يجدر التوقف عنده، وقد يكون عائقاً أمام هذا الهدف. فالمعركة الانتخابية ستدور بين قوى غير متكافئة أساساً، وهي تتوزّع كالآتي:
1 - «حزب الله» وحلفاؤه الممسكون بالسلطة، والذين يتنافسون على المواقع، لكنهم جميعاً تحت سقف «الحزب».
2 - «المستقبل» والاشتراكي اللذان سينخرطان في لعبة التحالفات مع حلفاء «الحزب» وفقاً للمصالح.
3 - «القوات اللبنانية» التي تتعرَّض لضغوط مختلفة، بهدف إضعاف تأثيرها في الانتخابات.
4 - قوى المجتمع المدني التي يتمّ إضعافها وتشتيت صفوفها.
بعيداً عن الأوهام، توحي دراسة هذه الخريطة بأن حلفاء «حزب الله» أقوياء جداً على المستوى الشيعي، وأن وضعهم «ليس سيئاً» في النتيجة لدى المسيحيين والسُنَّة والدروز، بسبب التشرذم والإرباك.
وفي الحسابات البسيطة، لا يبدو ممكناً تغيير نتائج الانتخابات المتوقّعة إلا بتحالف قوى 14 آذار (السابقة) وثورة 17 تشرين (التي صارت سابقة أيضاً). لكن هذا الأمر صعب التحقُّق إلى حدِّ الاستحالة بسبب تنافر المصالح الفئوية والشخصية في ما بينها، وتعدُّد ارتباطاتها وتحالفاتها الداخلية والخارجية. ويطمئنّ «الحزب» وحلفاؤه إلى هذه الاستحالة، ويتعاطون مع كل طرف «بالمفرَّق»، بالأداة المناسبة، ومن خلال «القناة» المناسبة.
وفي الموازاة، هو يترصّد أي خطر قد يأتيه، سواء من الشارع، أو من التحقيق الجاري في انفجار المرفأ، أو مِن بوابة الانهيار المالي والنقدي والاقتصادي والإداري والاجتماعي الذي يراه جزءاً من الحرب عليه وعلى السلطة التي ترتكز إليه.
ومنعاً لأي مفاجأة، تُحضِّر منظومة السلطة خطة متكاملة لمواجهة أي مفاجأة في الانتخابات، ولو جزئية. وتقضي الخطة بمواجهة المعارضة بسلاحها، أي بسلاح الانهيار الاجتماعي.
يقول العالمون إن منظومة السلطة تخبئ سلسلة «رشاوى» انتخابية سترميها دفعة واحدة عشية الانتخابات، إذا تَقرَّر إجراؤها في الربيع. وفي بيئةٍ باتت غالبية الناس فيها فقيرة جداً، بل جائعة بالمعنى الحرفي، يصبح سهلاً شراء الكثير من الناخبين، الواحد ببضعة دولارات لا أكثر، بعدما كان «الثمن» مئات الدولارات في الانتخابات السابقة.
وهنا تمتلك السلطة أدوات عدّة: الرشوة الانتخابية «الكاش»، زيادة «الإكراميات» بالليرة للعاملين في القطاعين العام والخاص، من مساعدات خارجية أو من أموال المودعين، الإفراج المحتمل عن البطاقة التمويلية، الإغراء ببعض الخدمات في دوائر الدولة ومن حسابها، وتشغيل العاطلين عن العمل في الحملات الانتخابية المدفوع ثمنها.
وعلى الأرجح، سيتمّ الإيحاء بتراجع معيَّن للدولار بعد صعود كبير، أو يتمُّ تجميد صعوده خلال الانتخابات، في سياق «خِدَع بصريّة» سرعان ما ستقود إلى انهيارات أكثر شراسة، بعد أن يكون «اللي ضرب ضرب واللي هرب هرب».
وهذا الترغيب سيتمّ تحصينه بالترهيب. و»تكسير الأسنان» في الانتخابات النقابية الأخيرة يجدر درسُه مع اقتراب الانتخابات النيابية. وثمة مَن يتوقع أن تبلغ الضغوط على الخصوم مداها الأقصى، بحيث يجري إلهاؤهم بملفات ساخنة تشلُّ حركتهم. وطبعاً، هناك استعدادات كاملة لمنع أي «صدمة» يتسبب بها الناخبون في بلدان الانتشار.
ولكن، تبقى الورقة الأقوى في يد منظومة السلطة هي التحكّم بقرار إجراء الانتخابات النيابية أو تأجيلها. وإصرار الرئيس ميشال عون في الأيام الأخيرة على تأكيد أنه لن يغادر بعبدا، إذا ارتأى المجلس النيابي ذلك، ربما يكون رأسَ جبل الجليد الذي سيظهر تباعاً.
فـ»الدولة العميقة» تريد استمرار عهد عون إلى ما لا نهاية. فقد كان عهداً نموذجياً لجهة تأدية الدور المطلوب، ولم يرتكب أي خطأ في هذا المجال. واستمراره يكون بطريقتين: إمّا بعون نفسه وإما بالنائب جبران باسيل، لا فرق.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :