«أوري تسافون»: الوجه الجديد للتوسّع الصهيوني… من غزة إلى جنوب لبنان

«أوري تسافون»: الوجه الجديد للتوسّع الصهيوني… من غزة إلى جنوب لبنان

 

Telegram

شهدت المرحلة التي أعقبت حرب غزة (2023–2024) بروز ظاهرة إسرائيلية جديدة تحمل اسم «أوري تسافون»؛ وهي حركة استيطانية يمينية متطرفة تسعى إلى إعادة رسم الخريطة الجيوسياسية في المنطقة عبر نقل مشروع الاستيطان من غزة والضفة الغربية إلى جنوب لبنان. نشأت الحركة تخليدًا للجندي الإسرائيلي يسرائيل سوكول، لكنها سرعان ما تحوّلت من مبادرة رمزية إلى منصة تعبئة أيديولوجية تتبنّى خطابًا توسعيًا أوسع من حدود الدولة، مستندة إلى خليط من المقولات الدينية والمرجعيات التاريخية ورؤية قومية متشددة تتجاوز اتفاقيات سايكس–بيكو (1916) والحدود المعترف بها دوليًا.
تطرح الحركة نفسها بوصفها امتدادًا لـ«رسالة تاريخية» ترى أنّ استقرار إسرائيل بعيد المدى لن يتحقق إلا عبر مواجهة النفوذ الإيراني وإعادة بسط السيطرة على مناطق تعتبرها جزءًا من «أرض الآباء» — وفي مقدمتها الجنوب اللبناني. وفي خطابها، يصبح الاستيطان مشروعًا مقدسًا، وتحويل الأراضي اللبنانية إلى «منطقة محمية» خطوة أمنية–دينية تكرّس ما تصفه بـ«الطبيعة الحقيقية للحدود». هذا المزج بين الأسطورة الدينية والعقيدة الأمنية يمنح الحركة قدرة على استقطاب جمهور جديد من المستوطنين والمتدينين والعسكريين، مدعومًا بنشاط إعلامي مكثّف عبر وسائل التواصل الإجتماعي يعتمد على الخرائط والتحريض وأساليب «الاستيلاء الناعم».
ورغم محدودية قدرتها الفعلية على تنفيذ مشاريع ميدانية، تكشف «أوري تسافون» عن تحوّل خطير في بنية اليمين الإسرائيلي؛ إذ تمثّل امتدادًا مباشرًا للحركات الصهيونية المتطرفة التي ظهرت منذ بدايات القرن العشرين، من «الهاغانا»  و«الإرغون»  إلى «غوش إيمونيم»  ومنظمات الكاهانية. الجديد اليوم هو انتقال هذا الفكر إلى مرحلة أكثر جرأة، مستفيدًا من المتغيرات الإقليمية، وانحسار الردع، وتنامي الأصوات الداعية إلى إعادة احتلال الجنوب اللبناني تحت ذرائع أمنية وتوراتية.
تأتي دراسة ظاهرة «أوري تسافون» في هذا التوقيت لتكشف ليس فقط عن حركة جديدة محدودة العدد، بل عن إعادة إنتاج مستمرة لجوهر المشروع الصهيوني التوسعي الذي يستخدم الدين والتاريخ والدعاية لتبرير السيطرة. ومع أنّ الحركة لا تزال بلا بنية تنظيمية واسعة، فإن خطابها يعكس بدقة الخيال الاستيطاني الذي يحكم اليمين الإسرائيلي اليوم، ويطرح أسئلة جوهرية حول مستقبل الصراع وحدود المواجهة المقبلة في الشمال (جنوب لبنان).
1. النشأة : 
تُعدّ مجموعة أوري تسافون وتعني بالعبرية "استيقظي يا الشمال" من أبرز الظواهر التي برزت داخل الكيان الاسرائيلي بعد حرب غزة (2023–2024)، وقد تأسست تخليدًا لذكرى الجندي الإسرائيلي يسرائيل سوكول، البالغ من العمر 24 عامًا، الذي قُتل خلال المعارك في غزة في كانون الثاني/يناير 2024.
وفقًا لعائلته، لم يكن حلم سوكول يقتصر على إعادة بناء المستوطنات الإسرائيلية داخل قطاع غزة، بل كان يمتد أيضًا إلى ما هو أبعد من ذلك — إلى لبنان. وفي مقابلة مع صحيفة Jewish Currents، كشف شقيقه يعقوب سوكول عن جانب من هذا الطموح قائلًا: كانت بيني وبين يسرائيل نكتة حول أننا سنعيش في لبنان، لكنها لم تكن مجرد مزاح، بل كانت تعبيرًا عن قناعة حقيقية. إنها الأرض التي يجب أن تكون في أيدينا.
هكذا تحوّل حلم فردي إلى رمز أيديولوجي تتبناه المجموعة، التي تستند إلى فكرة «استعادة الشمال» كجزء من رؤيتها التوسعية، وتربط بين البعد الديني – القومي وبين مشروع الاستيطان الجديد الذي يتجاوز حدود غزة ليطال الجنوب اللبناني.
بعد وفاة يسرائيل، تدخل عاموس عزاريا، الأستاذ الناشط في الحركة الإسرائيلية لإعادة إنشاء المستوطنات في غزة، وتباحث مع عائلة سوكول حول طرق تحقيق حلم يسرائيل. وأسفرت هذه المحادثات عن تأسيس مجموعة “أوري تسافون”. 
2. الأهداف والرؤى المستقبلية:
في إطار سياستها التوسعية تحمل الحركة مشروعًا أيديولوجيًا يتجاوز حدود الصراع في القطاع ليطال الحدود الشمالية مع لبنان . تستند الحركة في رؤيتها إلى مقولة أساسية مفادها أنّ ضمان الاستقرار الطويل الأمد لدولة إسرائيل لا يمكن تحقيقه من دون مواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة وإعادة رسم الخريطة الجغرافية – السياسية في الشمال.
تسعى الحركة إلى وضع جنوب لبنان تحت السيطرة الإسرائيلية المباشرة، وتحويله إلى ما تصفه بـ«منطقة محمية» تُدار بقيادة محلية وتخضع للحماية الأمنية الإسرائيلية. وترى قياداتها أنّ هذا النموذج يمكن أن يشكّل «حزام أمان استراتيجيًا» لإسرائيل، مشابهًا لما كانت تمثله «المنطقة الأمنية» قبل الانسحاب الإسرائيلي من لبنان عام 2000.
في الخطاب الأيديولوجي للحركة، تُعتبر اتفاقيات سايكس–بيكو (1916) ونتائج مؤتمر باريس للسلام (1919)  مسؤولتين عن رسم حدود «مصطنعة» بين دول المشرق، لا تراعي الواقع الجغرافي ولا الاعتبارات الأمنية. وترى «أوري تسافون» أن هذه الحدود ليست مقدسة ولا ينبغي الالتزام بها، وخصوصًا تلك التي «تتجاهل التضاريس الطبيعية مثل الجبال والوديان»، معتبرةً إياها مجرد خطوط على الخريطة فُرضت بقرارات استعمارية.
ومن منظور الحركة، لا بديل عن التدخل العسكري في لبنان لضمان ما تسميه «أمن إسرائيل واستقرارها الاستراتيجي»، إذ ترى أن الحسم العسكري وحده قادر على إعادة تشكيل البيئة الأمنية والسياسية بما يتناسب مع المصالح الإسرائيلية في المدى البعيد. 
يشير الدكتور جمال واكيم، أستاذ التاريخ في الجامعة اللبنانية، إلى أنّ نشوء الحركات الإسرائيلية المتطرفة لا يُعدّ ظاهرة طارئة أو منفصلة عن السياق العام للفكر الصهيوني، بل هو امتدادٌ طبيعي لبنية أيديولوجية قائمة على التطرف منذ نشأتها. فالحركة الصهيونية، برأيه، هي في الأصل حركة متطرفة، وبالتالي فإنّ كل ما يصدر عنها أو يتفرّع منها يحمل الطابع ذاته، لأن الأساس الفكري الذي قامت عليه يقوم على رؤية عنصرية تستحضر سرديات تاريخية مختلقة لتبرير مشروعها السياسي.
ويربط واكيم صعود الصهيونية بالتحولات العالمية خلال القرنين الماضيين، ولا سيّما تطوّر الرأسمالية وهيمنة عائلات يهودية نافذة عليها. في هذا المناخ، تماهت تلك العائلات مع البرجوازيات الأوروبية في إطار مشروع قومي جديد، فسعت إلى بلورة هوية قومية يهودية مبنية على سردية “شعب بلا أرض” يستعيد “أرضه التاريخية”. وبما أنّ اليهود كانوا مشتّتين في مختلف أنحاء العالم، فإن المشروع القومي الصهيوني اتخذ بعدًا عابرًا للحدود، مستندًا إلى التوراة بوصفها “كتاب التراث الكلاسيكي لليهودية”، ليطالب من خلالها بفلسطين باعتبارها أرض الميعاد.
ويرى واكيم أنّ التطرف ليس مجرد انحراف طارئ داخل الفكر الصهيوني، بل هو مكوّن بنيوي ومتجذّر في صلب الأيديولوجيا التي تأسست عليها الحركة. فالصهيونية لا تنفصل في جوهرها عن مشروع هيمنة إقليمي يقوم على إعادة تشكيل الجغرافيا والتاريخ في المنطقة بما يتوافق مع مخيّلتها الأيديولوجية. وهي مخيّلة تهدف — وفق واكيم — إلى إلغاء تاريخ المنطقة العربية والإسلامية وتجاوز واقعها الاجتماعي والثقافي، الأمر الذي يفسّر النزعة التوسعية والجموح الصهيوني المتصاعد كلما ازداد الضعف العربي.
وبذلك، فإنّ صعود الحركات الإسرائيلية المتطرفة ليس نتيجة ظروف راهنة فحسب، بل هو استمرار لمسار فكري وسياسي طويل، يجعل من التطرف جزءًا لا ينفصل عن المشروع الصهيوني نفسه.
3. من غزة إلى جنوب لبنان : عقيدة التوسّع الإسرائيلي واستعادة أرض الآباء
ترى حركة «أوري تسافون» الاستيطانية أن هزيمة ما تصفه بـ«الخطر الإيراني» وتحقيق استقرار طويل الأمد لإسرائيل يقتضيان، في نظرها، العودة إلى جنوب لبنان ووضعه تحت السيطرة الإسرائيلية. وتعتبر الحركة أنّ ما تسميه «أرض إسرائيل» لا يفقد هويته «الإسرائيلية» حتى في حال انسحاب الدولة منه أو إهماله، بل إنّ الأرض – وفق خطابها – تبقى تطالب بالعودة إليها.
وتقارن الحركة بين غزة ولبنان، معتبرة أن ما يحدث في الجبهتين متشابه: فبرأيها، تحاول الدولة الإسرائيلية نسيان هذه المناطق، بينما يدرك اليمين الديني القومي أنها «أجزاء طبيعية من الوطن التاريخي». وتقدّم الحركة مفهوم «النصر» بوصفه الاستيلاء على الأرض وانتزاعها من العدو، سواء في غزة أو جنوب لبنان أو في ما تسميه «جبل الهيكل».
وتستشهد الحركة بما تسميه «قانونًا حديديًا» في تاريخ إسرائيل المعاصر: أن كل منطقة تنسحب منها إسرائيل تتحول لاحقًا إلى كيان معادٍ. وتُسقط هذا المنطق على غزة ولبنان على حد سواء، إذ ترى أن الانسحاب من غزة لم يمنع المواجهة، وأن الانسحاب من لبنان سمح بتعاظم قوة حزب الله، وأن ما حال دون خوض مواجهة مباشرة واسعة في الشمال خلال حرب «سمحات توراة» هو ما تسميه الحركة «الانشغال الإيراني في غزة».
وفي سياق رؤيتها التوسعية، تعرض الحركة ما تعتبره «مساهمة في الحرب المقبلة»، عبر اقتراح أسماء لمستوطنات جديدة تخطط – من منظورها الأيديولوجي – لإقامتها في ما تصفه بـ«أرض إسرائيل الموسّعة»، بما يشمل جنوب لبنان.  
قبل نحو عام، أخبرنا الحاخام شاؤول فائينة، المولود في بيروت، أنه بعد قيام دولة إسرائيل وتحديد حدودها الرسمية، اقتصر مفهوم أرض إسرائيل على هذه الحدود الجديدة. قبل ذلك، كانت المنطقة التي تُعتبر جزءًا من أرض إسرائيل أوسع بكثير.
توضح موسوعة أرض إسرائيل الصادرة عام 1951 هذا التصور الواسع لأرض إسرائيل منذ العصور السابقة لإقامة الدولة. على سبيل المثال، تُشير الموسوعة إلى أن الحدود الجديدة استبعدت أجزاء كبيرة من الجليل الأعلى، والتي أصبحت ضمن أراضي لبنان. كما يُوصف اسم قرية بنت جبيل بأنها «قرية تقع في جبال الجليل الأعلى».باختصار، التصور التقليدي لأرض إسرائيل كان أوسع بكثير مما تحدده الحدود الحديثة.
ويرى المحلّل في الشؤون العبرية في قناة المنار، الأستاذ حسن حجازي،أنّ حركة «أوري تسافون» تعتبر الجنوب اللبناني جزءًا من «أراضي إسرائيل التاريخية»، وبالتالي ترى ضرورة العودة إلى الاستيطان في هذه المنطقة. وتندرج هذه الحركة ضمن تيار اليمين الديني الصهيوني الداعي إلى التوسع في الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان ولبنان، بل إنّ له أطماعًا تمتدّ إلى الأردن وسيناء وغيرها. وبحسب حجازي، فإنّ الحركة تنتمي إلى هذا التيار الذي يسعى إلى التوسع في كل الاتجاهات، معتبرًا أنّ على إسرائيل أن تستفيد من المرحلة الحالية لفرض حركة استيطانية واسعة، مستغلة الظروف الدولية المؤاتية، وقدراتها العسكرية، وقابلية جيشها للتحرك في ساحات متعددة.
4. المؤتمر الأول: استيطان جنوب لبنان
في 17 يونيو/حزيران 2025، عُقد المؤتمر الأول لحركة "أوري تسافون"  الاستيطانية عبر منصة زووم، تحت عنوان :"نماذج ناجحة للاستيطان من الماضي ودروس لجنوب لبنان".
ووفقًا للقناة 12 العبرية، شكّل هذا المؤتمر التدشين الرسمي للمنظمة، فيما ذكرت صحيفة ماقور ريشون في 18 يونيو أن الهدف المعلن يتمثل في العمل على احتلال جنوب لبنان حتى نهر الليطاني وتوطين اليهود فيه.
ويشير النص إلى أن وقف إطلاق النار الأخير ينص على انسحاب إسرائيل خلال 60 يومًا من البلدات اللبنانية التي احتلتها أثناء العدوان الأخير على لبنان، ما يجعل عقد المؤتمر في هذا السياق إعلانًا سياسيًا مثيرًا للجدل.
على الرغم من انعقاده افتراضيًا، لم يتجاوز عدد المشاركين 280 شخصًا، وفقًا لصحيفة هآرتس العبرية، التي أشارت أيضًا إلى أن عاموس عزاريا هو زعيم المنظمة وقائدها.
خلال المؤتمر، تحدث حاجي بن آرتسي، شقيق سارة، زوجة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، قائلاً:
"لسنا متطرفين، والحدود بين لبنان وإسرائيل مصطنعة، والجليل يمتد إلى الليطاني".
كما تناول المؤتمر الجوانب القانونية للاستيطان، حيث أشار المحامي دورون نير تسيفي إلى وجود سوابق في الضفة الغربية، مؤكدًا أن التسوية قد تحظى بموافقة دولية، وأضاف:
"يمكن إجراء تسوية في جنوب لبنان لأسباب أمنية، كما سبق ووافق الرئيس الأمريكي دونالد ترمب عام 2019 على اعتبار الجولان جزءًا من إسرائيل".. 
5. نشاطات المنظمة الاستيطانية واستخدام الرموز الدينية لتبرير الاستيطان في جنوب لبنان
تسعى منظمة "أوري تسافون" الدينية الاستيطانية إلى توسيع وجودها ونفوذها على الأرض من خلال حملات دعائية وأنشطة ميدانية تهدف إلى تعزيز فكرة الاستيطان في جنوب لبنان. ومن بين أنشطتها، قامت المنظمة بوضع ملصقات في المدن الواقعة شمال الأراضي المحتلة تدعو إلى توطين لبنان، كما نظمت أول احتجاج لها في أبريل الماضي قرب كيبوتس ألونيم، حيث شارك الأعضاء في مسيرة سيارات انطلقت من الكيبوتس في الجليل الأسفل، تلتها وقفة تطالب بإقامة مستوطنات في جنوب لبنان لضمان الأمن في المستوطنات الشمالية.
وشارك في هذه الفعاليات أغلب أعضاء حركة «نحلاه» الاستيطانية، التي سجلت حتى الآن حوالي 600 طلب من عائلات يهودية ترغب في الاستيطان أيضًا في قطاع غزة. وقد نظمت الحركة سابقًا في القدس مؤتمرًا تحت عنوان «عودة الاستيطان إلى غزة»، حضره وزراء وأعضاء في الكنيست من حزب الليكود وكتلة الصهيونية الدينية.
توالت بعد ذلك تجمعات أخرى لأعضاء المنظمة، استخدموا فيها طائرات بدون طيار وبالونات لإرسال منشورات إلى الجانب اللبناني من الحدود، تضمنت رسائل تحذيرية مثل":احذر! هذه أرض إسرائيل التي يملكها اليهود. يجب عليكم إخلاؤها على الفور."
كما نظمت المنظمة خلوة ليلية يوم السبت قرب الحدود للعائلات المستعدة للاستقرار، حيث أشار المشاركون إلى أن:  "من خلال الاقتراب جسديًا من الحدود، نعبر عن رغبتنا في الاستقرار في جنوب لبنان."
وتجلت ذروة نشاط المنظمة في مؤتمر افتراضي عقد في يونيو، حضره مئات المشاركين، وركز على الارتباط اليهودي التاريخي بلبنان، والسياق الجيوسياسي، ونماذج سابقة للاستيطان. وقد حظيت هذه التحركات بتغطية إعلامية واسعة، ولاقت دعمًا من شخصيات بارزة مثل عضو الكنيست السابق موشيه فيجلين، مما منح أفكار المنظمة المتطرفة زخمًا إضافيًا وانتشارًا أوسع.
6. استخدام الرموز الدينية والنصوص التوراتية
تستغل منظمة «أوري تسافون» الرموز الدينية والنصوص التوراتية لتبرير نشاطها السياسي والعسكري وتعزيز شرعيتها في الاستيطان. ومن أبرز أساليبها تقديس الأرض وتحويلها إلى "أرض موعودة"، حيث تقدم الأراضي المستهدفة، وخصوصًا جنوب لبنان، كجزء من "أرض إسرائيل" التاريخية. هذا الاستخدام يحوّل الخريطة السياسية إلى نص ديني يمنح المنظمة شرعية استعمارية ويبرر خطواتها الاستيطانية أمام أتباعها . كما تستعمل الحركة اقتباسات ومفردات من التوراة لتأطير الاستيطان كواجب ديني أو لتحقيق وعد إلهي، ما يمنح الفعل الاستيطاني صبغة “إيمانية” تتجاوز الاعتبارات القانونية والدولية. هذه الممارسة تُظهر محاولة المنظمة لتقديم نشاطها السياسي كمسؤولية دينية . 
توظف المنظمة أيضًا الرموز والطقوس لتعزيز البُعد الديني للأنشطة الاستيطانية، مثل حفلات “نقل الشعلة”، ووضع حجر الأساس، واستخدام شعارات مأخوذة من النصوص الدينية. هذه الطقوس تحوّل الاستيطان إلى حدث طقوسي يعزز الانتماء الجماعي ويحوّل النشاط السياسي إلى فعل رمزي ذي دلالة دينية . يتضمن شعار "أوري تسافون" شجرة الأرز اللبنانية داخل نجمة داوود السداسية، وقع اسفلها عنوان " حركة الاستيطان في جنوب لبنان باسم يسرائيل سوكول.
 
بالإضافة إلى ذلك، تمزج المنظمة بين التبرير الديني والأمني في خطابها، مثل التأكيد على أن الاستيطان في جنوب لبنان يسهم في حماية المستوطنات الشمالية وضمان الأمن، ما يسمح بتوسيع قاعدة المتعاطفين مع الحركة لتشمل جمهورًا أكبر من الدينيين المتشددين والعسكريين. 
ويشير حجازي أن هذه الحركة تحاول إستغلال التوسع العسكري الحالي، وما يرافقه من حالة حافزية ومبادرة يعيشها الاحتلال، إضافة إلى غياب حالة الردع التي مثلتها المقاومة في المرحلة السابقة. هذا الغياب جعل بعض المجموعات المتطرفة تفكر بهذا القدر من الجرأة. ففي زمن قوة الردع التي فرضتها المقاومة، لم تُطرح أفكار عن الاستيطان في جنوب لبنان، أما اليوم فقد ظهرت مثل هذه الطروحات نتيجة للتطورات المستجدة ومحاولات بعض الحركات المتطرفة التعبير عن توجهاتها الأيديولوجية التوسعية.
7. أدوات التأثير والتعبئة
تستغل حركة “أوري تسافون” منصات التواصل الاجتماعي كأداة رئيسية للترويج لأهدافها، عبر نشر الخرائط والمحتوى الذي يعزز فكرة المستوطنات الجديدة ويستقطب الدعم الشعبي والسياسي. يُظهر هذا الاستخدام كيف أصبحت الوسائل الرقمية منصة فعّالة لنشر الأيديولوجيات والتأثير في الرأي العام.
مؤخرًا، نشرت الحركة على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي خريطة للبلدات الواقعة في جنوب الليطاني، موضحة لكل منطقة أسماء عبرية، مع تحديد أسعار الأراضي ابتداءً من 300 ألف شيكل (ما يعادل نحو 80 ألف دولار) لكل قطعة، ووصفتها بأنها تمثل “مستقبل مستوطنات جديدة”.
تمتد الخريطة من مصب نهر الليطاني عند البحر المتوسط شمالًا حتى بلدة كفركلا، وتشمل بلدات البقاع الغربي وحاصبيا ومزارع شبعا، إضافة إلى أربع مدن رئيسية هي صور وبنت جبيل ومرجعيون وحاصبيا.
انطلاقًا من هذا الفكر، ظهرت المنشورات والتحركات التي قامت بها الحركة، بما في ذلك محاولات بناء بعض الخيام أو إقامة الصلوات في مناطق شمال فلسطين المحتلة، على غرار مجموعات مشابهة دخلت مناطق في الجولان السوري المحتل وجنوب سوريا. ويرى حجازي أن هذه التحركات تستند إلى منطلقات دينية وتاريخية، إذ تعتبر هذه المجموعات أن بعض هذه المناطق كانت جزءًا من الممالك اليهودية القديمة، وبالتالي فهي — وفق زعمهم — امتداد جغرافي وديني لتاريخهم.
ويلفت حجازي إلى أن عمل هذه الحركات يتطور بحسب الظروف، فلو توفرت إمكانية حقيقية لبناء مستوطنات لبادرت إلى ذلك كما حدث في الضفة الغربية، حيث تبدأ العملية بنصب خيام وإنشاء بنى تحتية بسيطة، ثم تتوسع تدريجيًا لتتحول إلى مستوطنة قائمة، مع توفير مقومات الحياة الأساسية والحماية، قبل أن تمنحها الحكومات لاحقًا الشرعية. غير أن ظروف لبنان تختلف جذريًا، فحتى الخريطة التي نشرتها الحركة، والتي تضمّنت أسماء عبرية بديلة لمدن وقرى لبنانية، لم تتجاوز كونها محاولة إرهابية رمزية لإظهار إمكانية تحويل هذه الأماكن إلى مستوطنات مستقبلية.
ويستشهد حجازي بما قام به المؤرخ الصهيوني  زئيف إيرلتش عندما دخل إلى قرية شمع التي اقتحمها جيش الاحتلال خلال الأحداث الأخيرة، حيث بدأ يبحث عن مؤشرات أثرية تربط المنطقة بالكيان الصهيوني وبـ«بني إسرائيل». ويعدّ حجازي هذا جزءًا من حركة استيطانية واسعة تنظر إلى المنطقة باعتبارها مرتبطة دينيًا وتاريخيًا بما يسمى «شعب إسرائيل»، وأن السيطرة عليها تمثل — في نظرهم — استعادةً لأرض الآباء.
وفي الخلاصة، يرى حجازي أن هذه المجموعات لا تزال محدودة العدد والتأثير، لكنها تشكل نواة أيديولوجية تعبّر بوضوح عن جوهر الفكر الصهيوني الحقيقي، حتى لو كانت الظروف السياسية الراهنة لا تسمح لها بتحويل مشاريعها إلى واقع فعلي.
8. اوري تسافون امتداد لخطاب السيطرة
تظهر المنظمات الإسرائيلية المتطرفة امتدادًا تاريخيًا متصلاً يبدأ من الحركات الصهيونية الأولى التي تبنّت خطابًا إحلاليًا توسعيًا، وصولًا إلى الجماعات الراهنة التي تعيد إنتاج الذهنية نفسها بأدوات أكثر حداثة وتنظيمًا. وعلى الرغم من تغيّر السياقات السياسية، يبقى القاسم المشترك بينها هو السعي إلى فرض الهيمنة وشرعنة الاستيطان عبر مزيج من العنف والدعاية وتوظيف الأساطير التاريخية.
يتحدث الأستاذ نجا حمادة، الباحث في التاريخ، إلى تطوّر المنظمات الصهيونية المسلحة منذ تأسيس الهاغانا عام 1920، مرورًا بالإرغون (1931) وليحي (1940)، وهي تنظيمات تبنّت العنف ضد العرب وأسّست للأيديولوجيا المتطرفة التي استمرّت لاحقًا عبر الأطر السياسية، ولا سيّما حزب حيروت الذي تحوّل فيما بعد إلى حزب الليكود. ويرى حمادة أنّ هذه التنظيمات شكّلت البنية الأولى لفكر يقوم على القوة كوسيلة لتحقيق المشروع الصهيوني، وأنّ هذا الإرث انتقل من التنظيمات شبه العسكرية إلى المؤسسات السياسية بعد قيام الدولة.
ويشير حمادة إلى أنّ مرحلة ما بعد حرب 1967 شهدت تحوّلًا كبيرًا مع صعود اليمين الديني المتشدّد، وفي مقدّمته حركة غوش إيمونيم، التي أكّدت على الاستيطان بوصفه واجبًا دينيًا، ما منح العملية الاستيطانية غطاءً عقائديًا أكثر صلابة. كما برزت منظمات مثل كاخ وكاهانا حي، التي زرعت خطاب الكراهية تجاه غير اليهود ودعت إلى سيطرة كاملة على الأرض، وهو ما ساهم في ترسيخ نزعة التطرّف الديني – القومي داخل المجتمع الإسرائيلي.
ويؤكد حمادة أنّ حركة «أوري تسافون» اليوم ليست ظاهرة معزولة، بل تمثّل استمرارًا مباشرًا لهذا الخط الفكري. فالحركة تعتمد أساليب جديدة تقوم على ما يسميه “الاستيلاء الناعم” عبر أدوات اقتصادية واجتماعية وإعلامية، لكنها تحمل الأسس الأيديولوجية ذاتها للحركات السابقة التي دعت إلى توسيع السيطرة الإسرائيلية وفق رؤية “إسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل”. ويضيف أن هذا النهج يعكس أنّ التطرّف في الفكر الصهيوني الحديث ليس حدثًا ظرفيًا، بل عنصرًا مركزيًا في المشروع السياسي والأيديولوجي للحركة الصهيونية منذ بداياتها حتى اليوم.
الخاتمة
تعدّ حركة «أوري تسافون» نموذجًا واضحًا لعودة النزعات الاستيطانية المتشددة داخل إسرائيل في مرحلة ما بعد حرب غزة 2023–2024، إذ تقدّم نفسها كحركة لإنقاذ “أمن الشمال”، لكنها في جوهرها تمثّل مشروعًا توسعيًا أيديولوجيًا يتجاوز حدود الخطاب الأمني التقليدي. فالتحليل المتأنّي لخطابات قادتها وآليات عملها يُظهر أنّ الحركة ليست مبادرة محلية عابرة، بل جزء من إعادة إحياء منظومة فكرية قديمة ترى في السيطرة على جنوب لبنان امتدادًا طبيعيًا لمفهوم “أرض إسرائيل التاريخية”، واعتبار الحدود الحالية مؤقتة وقابلة للكسر متى توافرت الظروف.
وتطرح الحركة أهدافها على مستويين: الأول أمني–عسكري يقوم على فكرة “تحييد تهديد الشمال” عبر الدعوة إلى شن حرب شاملة على لبنان وإعادة المستوطنين إلى الحدود. أما الثاني فهو أيديولوجي–استيطاني يقوم على إعادة تثبيت مبدأ “العودة إلى الأرض المنسية” بوصفه واجبًا دينيًا ووطنيًا. وهذا الدمج بين الهاجس الأمني والخطاب العقائدي هو ما يمنح الحركة زخمها داخل البيئة اليمينية الإسرائيلية، ويجعلها قادرة على استقطاب فئات واسعة من المستوطنين والناشطين القوميين.
أما على مستوى الممارسة، فقد أظهرت «أوري تسافون» قدرة لافتة على توظيف الأدوات الرقمية والدعاية المكثفة لخلق بيئة ضغط نفسي وسياسي؛ فهي تستخدم منصات التواصل لنشر سرديات تبرّر الحرب، تبالغ في تصوير التهديد، وتُنتج روايات رمزية قائمة على الخوف والتحريض. كما تنشط الحركة في تنظيم لقاءات ميدانية، حملات تعبئة شعبية، وجولات على مستوطنات الجليل، بهدف تثبيت قناعة بأن “المعركة المقبلة في لبنان” ليست خيارًا بل ضرورة تاريخية.
ويكشف تحليل خطاب الحركة أنّ رؤيتها التوسعية لا تنحصر في اعتبارات أمنية، بل ترتكز على تصور جغرافي–تاريخي يجعل الجنوب اللبناني جزءًا من المجال الحيوي لإسرائيل، ويحوّل السيطرة عليه من “حلّ أزمة” إلى “استعادة حق”. ولعل أخطر ما في هذا الخطاب هو محاولة تحويل مفهوم الحرب إلى مشروع وطني طويل المدى، لا كعملية عسكرية ظرفية، ما يعكس نزوعًا واضحًا نحو تكريس واقع استعماري جديد في المنطقة الحدودية.
وتقود هذه المعطيات إلى نتيجة جوهرية: إنّ «أوري تسافون» تمثّل اليوم أحد أبرز التعبيرات عن التطرّف التوسعي في إسرائيل، بما تملكه من قدرة على صياغة رأي عام، وتحويل القلق المجتمعي إلى أداة لتبرير المشاريع الاستيطانية. ومن هنا فإنّ فهم الحركة لا يكتمل عبر توصيف نشاطاتها فقط، بل عبر قراءة البنية الأيديولوجية التي تصوغ رؤيتها وتصوغ من خلالها صراعات المستقبل في الشمال. إنها حركة تستخدم الأمن ذريعة، والدين سندًا، والدعاية سلاحًا، لتحقيق مشروع سياسي يتجاوز حدود اللحظة نحو إعادة رسم خريطة الصراع في المنطقة.

| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) .اضغط هنا

تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

 

Telegram