أزمة التقاعد في فرنسا... العدوى التي قد تصيب بريطانيا قريبا

أزمة التقاعد في فرنسا... العدوى التي قد تصيب بريطانيا قريبا

يحذر مصرفيون من أن الخطة التي طرحها رئيس الوزراء سيباستيان لوكورنو لا تمثل حلاً لمعضلة الدين في فرنسا وستخلف تداعيات واسعة عبر الاتحاد الأوروبي تواجه فرنسا أزمة مالية وسياسية خانقة بعد تجميد إصلاحات التقاعد، إذ بلغ دينها العام 113 في المئة من الناتج المحلي وعجزها 6 في المئة، ما يهدد بانهيار الثقة ويثير قلق الاتحاد الأوروبي من تكرار سيناريو اليونان. ومع تصاعد الغضب الداخلي وترقب اليمين واليسار سقوط الحكومة، لن تكون بريطانيا في مأمن من العدوى المالية المحتملة إذا فشل لوكورنو في احتواء الأزمة.

 

Telegram

باتت مدة بقاء رؤساء وزراء فرنسا في مناصبهم هذه الأيام لا تتجاوز مدة مدرب لفريق مهدد بالهبوط. سيباستيان لوكورنو، الذي يخوض تجربته الثانية في رئاسة الحكومة، يعول على تجميد إصلاحات التقاعد المثيرة للجدل - التي ترفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة - على أمل أن يمنح هذا الإجراء حكومته المرهقة فرصة للبقاء وسط أزمة ديون خانقة.

هذا التراجع، الذي ينسف أحد أهم إصلاحات الرئيس إيمانويل ماكرون، جاء كمحاولة لاستمالة أصوات الاشتراكيين في تصويت حاسم قد يحدد مصير الحكومة. لكن الثمن سيكون باهظاً، إذ يتوقع البنك السويسري "يو بي أس" UBS أن تصل كلفة الخطوة إلى 400 مليون يورو (350 مليون جنيه إسترليني) عام 2026، لتقفز إلى 1.8 مليار يورو عام 2027. وقال لوكورنو إن هذه التكاليف "ستعوض" عبر خفض الإنفاق في مجالات أخرى، لكن العثور على تلك الوفورات يبدو شبه مستحيل في ظل أزمة سياسية واقتصادية عميقة.

تعاني فرنسا حالياً ديناً عاماً يعادل نحو 113 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وعجز في الموازنة يقترب من ستة في المئة، وهي مستويات لا يمكن للاقتصاد الفرنسي تحملها على المدى الطويل. هذه الأرقام أثارت مقارنات مع اليونان وإيطاليا، اللتين كانتا في قلب آخر أزمة ديون سيادية ضربت الاتحاد الأوروبي، وهي مقارنات مبررة تماماً.

يفرض الاتحاد الأوروبي على الدول الأعضاء ألا تتجاوز ديونها 60 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وألا يتخطى العجز في الموازنة نسبة ثلاثة في المئة. لكن تكرار فرنسا خرق هذه القواعد أدى إلى إخضاعها لما يعرف بـ"إجراء العجز المفرط في الدين"، وهي آلية رقابية يتخذها الاتحاد الأوروبي ضد الدول التي تفرط في الاقتراض، وتلزمها باتخاذ خطوات محددة لخفض الديون والعجز. وينظر إلى هذا الإجراء باعتباره بمثابة "عقوبة مالية" من بروكسل.

ليس واضحاً بعد ما إذا كانت خطة لوكورنو المخففة قادرة على معالجة الأزمة، حتى لو نالت موافقة البرلمان الفرنسي.

وذكر بنك "يو بي أس": "نتوقع أن تتدهور نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في فرنسا، التي بلغت 113 في المئة عام 2024، بمعدل يراوح ما بين نقطتين وثلاث نقاط مئوية سنوياً على المدى المتوسط". ونصح البنك عملاءه بالتخلص من السندات الفرنسية القصيرة الأجل، متوقعاً أن يحذو آخرون حذوهم، مما سيؤدي إلى تفاقم الأزمة عبر زيادة كلفة الاقتراض. ويرجح أن تتبع ذلك تخفيضات في التصنيف الائتماني من وكالات التصنيف الدولية، المعروفة بتأخرها الدائم في الاستجابة.

وقد يفرض الاتحاد الأوروبي في نهاية المطاف غرامة تصل إلى 0.05 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للعام الماضي، إذا رأى أن خطة لوكورنو لا تستوفي الشروط المطلوبة لتصحيح وضع المالية العامة. وتقدر هذه العقوبة بنحو 1.5 مليار يورو، وهي خطوة من شأنها أن تفاقم الأزمة المالية وتزيد المشهد السياسي توتراً وتعقيداً.

وتكمن خطورة الوضع في أن انعكاساته قد تتجاوز حدود فرنسا لتصيب الاتحاد الأوروبي بأكمله. ففرنسا، إلى جانب ألمانيا، تشكل الركيزتين الأساسيتين للاتحاد، وكانت تجربة ألمانيا المريرة مع الديون والتضخم الجامح سبباً في تبني القواعد الصارمة الحالية لضبط المديونية. لكن فرنسا اليوم باتت أقرب إلى كابوس يؤرق المصرفيين الألمان.

تكمن مشكلة لوكورنو في أنه يدرك تماماً خطورة الوضع المالي، بينما يفتقر بعض شركائه السياسيين إلى الرؤية نفسها. وفي المقابل، يقف خصومه من اليمين واليسار المتشددين على أهبة الاستعداد، يترقبون سقوط الحكومة بلهفة ويتهيأون لاستغلال أية فرصة قد تفتح الباب أمام انتخابات مبكرة. وقد تتدهور الأوضاع كثيراً قبل أن تلوح أية بوادر تحسن.

 


وجوهر الأزمة في فرنسا ديموغرافي بالدرجة الأولى، على غرار ما تعانيه دول غربية كثيرة: انخفاض معدلات المواليد وتسارع وتيرة الشيخوخة. فعدد الشباب العاملين لم يعد كافياً لتمويل أنظمة التقاعد أو تغطية نفقات الرعاية الصحية لجيل المتقاعدين المتزايد [وهو ما يضع عبئاً متنامياً على المالية العامة].

ويبدو أن لوكورنو يدرك تماماً أن تأجيل إصلاح نظام التقاعد لن يؤدي إلا إلى تأجيل الانفجار السياسي المرتبط به. أما الاتحاد الأوروبي، فيواجه معضلة أخرى: فالتساهل مع فرنسا في فرض العقوبات سيبعث برسالة خاطئة لبقية الدول، تشجعها على خرق القواعد ذاتها. فالقانون يجب أن يسري على الجميع.

أما أولئك الذين يفرحون على الجانب البريطاني من القنال الإنجليزي، فعليهم أن يتذكروا أن الاتحاد الأوروبي هو الشريك التجاري الأكبر للمملكة المتحدة، وأن فرنسا تعد خامس أكبر سوق لصادراتها. فإذا فشل لوكورنو في احتواء الأزمة وامتدت "العدوى" المالية، فلن تكون بريطانيا في مأمن من آثارها. وحتى إذا نجح في السيطرة عليها، فإن الثقة الاقتصادية ستظل مهزوزة، والاقتصاد الفرنسي مهدداً بمزيد من الركود.

وعلى رغم الغيوم الداكنة التي تتجمع فوق باريس وبروكسل، قد تحمل هذه الأزمة في طياتها مكسباً سياسياً لوزيرة الخزانة البريطانية راشيل ريفز.

فبريطانيا تواجه بدورها مشكلات مالية خاصة بها، ويستعد الحزبان الشعبويان "الخضر" على اليسار و"ريفورم" على اليمين لاستغلال ضعف الحكومة في التعامل معها.

لكن، وعلى عكس لوكورنو، يتمتع رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر بغالبية برلمانية مريحة، وإن لم تكن حصينة تماماً. ومع ذلك سيكون من الحكمة أن تذكر ريفز بهدوء بأن تمسكها الصارم بقواعدها المالية هو ما يحمي بريطانيا من الوقوع في المستنقع ذاته الذي غرقت فيه فرنسا.

| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) .اضغط هنا

تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

 

Telegram