كتب رشيد حاطوم
في ظلِّ المشهد السياسي اللبناني المعقّد، يتحرّك "تيار المستقبل" بحكمة بالغة استعدادًا للاستحقاقات الانتخابية المقبلة. التيار الذي يقوده الرئيس سعد الحريري، يواصل تحضيراته على الرغم من غياب قائده عن الساحة، معتمدًا على إرث سياسي ثري وخيارات استراتيجية ترسم ملامح مرحلة جديدة. تقوم هذه الخيارات على فلسفة متوازنة تهدف إلى الحفاظ على الدور السياسي مع تجنب التصادم، وضمان التمثيل الشعبي الفعّال، والحفاظ على تماسك القيادة.
الإرث السياسي وخيارات المرحلة
ورث سعد الحريري القيادة السياسية بعد اغتيال والده الرئيس رفيق الحريري عام 2005، ليتزعّم "تيار المستقبل" ويشكّل مع حلفاءه تحالف "قوى 14 آذار" الذي طالب بخروج الجيش السوري من لبنان. شكّل الحريري حكومتين (2009-2011 و2016-2019) وواجه استقالةً دراماتيكية من الرياض عام 2017 عاد بعدها إلى لبنان وتراجع عنها، في حادثة أظهرت تعقّد العلاقة بين السياسة اللبنانية والمحيط الإقليمي.
من هذه المحطات، يمتلك التيار خبرةً في إدارة الأزمات، ويستمدّ شرعيته من كونه القوة السنية الرئيسية القادرة على حصد أكبر كتلة نيابية وتشكيل تحالفات غير طائفية تمنع احتكار التمثيل.
الاستعدادات الانتخابية.. بيروت نموذجًا
تبلغ استعدادات التيار مراحلها المتقدمة، مع اتجاهٍ واضح لتشكيل لوائح "زرقاء" في عدة مناطق، وتُعتبر بيروت أبرزها. المعلومات تؤكد دخول القيادة مرحلة حسم الأسماء، مع التركيز على شخصيات مسالمة ومقبولة سياسيًا وبيروتيًا، وليست من أصحاب سوابق الاشتباك السياسي أو التصعيد الكلامي.
ضمن هذا الإطار، تبرز الأسماء ومن بينها النائب السابق رلى طبش عن العاصمة، كما تتردد أنباء عن احتمال ترشح أحمد الحريري عن مقعد صيدا، بالاضافة الى بقية المحافظات حيث يمثلان استمراراً للإرث العائلي والسياسي للعائلة، بالإضافة إلى الخبرة النيابية المتميزة. هذا الاختيار يعكس رغبة التيار في تمثيل حقيقي للشارع، مع الحفاظ على خطاب سياسي يخفّض حدة الاستقطاب.
العلاقة مع القوات اللبنانية: من التحالف إلى القطيعة
شكّلت العلاقة بين الرئيس سعد الحريري ورئيس "القوات اللبنانية" سمير جعجع نموذجًا للتحالفات السياسية المتقلبة في لبنان. انطلق الرجلان كحليفين أساسيين في تحالف "قوى 14 آذار" الذي تشكّل بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005.
وقد شهدت هذه العلاقة تحولاً دراماتيكياً بلغ ذروته في حادثة استقالة الحريري المثيرة من الرياض عام 2017، والتي فُسرت على نطاق واسع على أنها جاءت تحت ضغوط خارجية. وقد أشار الحريري لاحقاً إلى أن قرار جعجع بعدم المشاركة في الحكومة في تلك المرحلة الحساسة مثل "طعنة في الظهر" من أقرب حلفائه.
وتعمقت هوة الخلاف مع إعلان الحريري مقاطعته الحياة السياسية في 2022، حيث سارع جعجع إلى محاولة ملء الفراغ السياسي في المعاقل التقليدية لتيار المستقبل، من خلال تحالفاته الانتخابية مع شخصيات كان يُنظر إليها تاريخيًا على أنها من الخصوم السياسيين للحريري.
فلسفة المرحلة الجديدة.. قراءة في الاستراتيجية
تُعتبر الفلسفة الجديدة العمود الفقري لتحركات التيار الحالية، ويمكن تفصيلها على النحو التالي:
· الحفاظ على العلاقات السياسية: يمثل هذا المبدأ رغبة التيار في الحفاظ على مساحة من التواصل والعمل مع القوى السياسية الفاعلة، وتجنب أي مواجهة مفتوحة من شأنها تعطيل الحياة السياسية.
· التمسك بالتمثيل الشعبي: يؤكد التيار من خلاله على تمسّكه بتمثيل قطاعه وعدم التخلي عن مسؤوليته تجاه ناخبيه. الفراغ السياسي ليس خيارًا، والهدف هو منع أي قوى أخرى من ملء هذا الفراغ.
· الحفاظ على تماسك القيادة: يهدف هذا المبدأ إلى ضمان استقرار التيار ووحدة قراره، وعدم السماح بأي انقسامات داخلية قد تؤثر على أدائه السياسي.
التعقيدات الإقليمية والداخلية
لا تغيب عن حساب التيار تعقيدات العلاقة مع المحيط الإقليمي، لا سيما مع المملكة العربية السعودية. فالمملكة - رغم اهتمامها الاستثنائي بنتيجة الاستحقاق وبرغبتها في محاصرة نفوذ حزب الله - لم تمنح حتى اللحظة "ضوءًا أخضر" واضحًا يعيد الرئيس الحريري إلى اللعبة السياسية من باب الانتخابات. لكن التيار يمضي قدمًا في تحضيراته، معتمدًا على قوته الذاتية وشرعيته الشعبية.
استعدادات "تيار المستقبل" للانتخابات المقبلة، ورغم كل التحديات، تشي برغبة في إعادة تعريف الدور من خلال فلسفة متوازنة تدمج بين الواقعية السياسية والتمسك بالتمثيل الشعبي. اختيار شخصيات مثل أحمد الحريري ورلى الطبش يؤشر إلى رغبة في تقديم وجوه جديدة وموثوقة، قادرة على تمثيل التيار دون إثارة الاحتقانات. يبدو أن التيار، وبحكمة، يختبر طريقًا ثالثًا بين المشاركة المطلقة والمقاطعة، ساعيًا إلى تحقيق حضور برلماني يحفظ كيانه ويخدم قطاعه في آن معًا، في خطوة قد تُعيد رسم الخريطة السياسية في بيروت.
| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) .اضغط هنا
نسخ الرابط :