ارتبط اسم دولة البحرين باللؤلؤ منذ القدم، وعُرفت بأحواض المحار الغنية التي شكّلت العمود الفقري لاقتصاد الجزيرة على مدى قرون طويلة من الزمن. معالمها عديدة، وأشهرها موقع صيد اللؤلؤ التاريخي الشهير باسم «مسار اللؤلؤ» الذي أدرجته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونيسكو)، كموقع للتراث العالمي، فأضحى الثاني في البحرين بعد قلعة البحرين.
بدأ صيد اللؤلؤ في هذه البلاد التي تحيط بها مياه الخليج من كل الجهات منذ عام 2000 قبل الميلاد، يوم كانت حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون، وتطوّر مع مرور الزمن، وازدهر في الحقبة التي أطلق عليها المستكشفون اليونانيون اسم تايلوس في عهد الإسكندر الأكبر. كشفت حملات المسح والتنقيب المتواصلة في هذه الدولة عن مجموعة متنوعة من القطع اللؤلؤية، خرج القسم الأكبر من مقابرها القديمة التي تشكّل أهم مواقعها الأثرية، ودخل متحف البحرين الوطني في المنامة.
تعود الغالبية العظمى من هذه الدرر إلى زمن تايلوس، أما القطع التي تُنسب إلى عهد دلمون الطويل فتبدو إلى يومنا هذا معدودة، وأبرزها قطعتان خرجتا من مقبرة تجاور قرية دار كليب في المنطقة الغربية خلال حملة تنقيب جرت في النصف الأول من تسعينات القرن الماضي. تحدّ هذه القرية شرقاً مدينة حمد التي تتبع المحافظة الشمالية، وتضمّ سلسلة واسعة من تلال المدافن، تتكوّن من حقول عدة، منها حقل تلال دار كليب الذي يشكّل ثالث حقول هذه التلال. تتمّثّل هاتان القطعتان بصدفتين كبيرتين مجوّفتين تحوي كل منهما لؤلؤة على شكل قطرة. يبلغ طول أكبر هاتين اللؤلؤتين 1.5 سنتيمتر، ويبلغ طول الأخرى 70 ملليمتراً، وتعودان بحسب المختصين إلى الحقبة الأخيرة من عهد دلمون، التي تمتد من عام 1000 إلى عام 300 قبل الميلاد.
تشهد هاتان الدرتان لدخول اللآلئ إلى المقابر وتحوّلها إلى جزء من الزينة الجنائزية التي ترافق الراقدين تحت الثرى في رحلتهم إلى العالم الآخر، وتظهر اللقى التي تعود إلى عهد تايلوس أن هذا التقليد ترسّخ مع الزمن، وقد اتخذ أشكالاً متنوّعة، كما يتبيّن عند دراسة هذه اللقى، فمنها ما يحضر بشكله الخام، ومنها ما يحضر في حلل نسائية تنوّعت صياغتها بشكل كبير. تظهر اللآلئ بشكلها الخام في رزمة عُثر عليها في قبر يعود إلى طفل قضى عند ولادته، وهو من القبور التي تمّ استكشافها في مدفن يحمل اسم قرية أبو صيبع التي يجاورها في المحافظة الشمالية. تضمّ هذه الرزمة 26 لؤلؤة يتفاوت قطرها بين 15 و75 ملليمتراً، وهي على هيئة كرات صغيرة لمّاعة، تحضر في شكلها الخام، مع رواسب من أصداف المحار التي خرجت منها. تتّخذ بعض هذه الأحجار شكلاً مستديراً، وبعضها الآخر أشكالاً مغايرة، كشكل الكمثرى غير المنتظم.
تعود هذه اللآلئ إلى القرن الميلادي الأول، وتقابلها حلل نسائية معاصرة لها تجمع بين الدرر والذهب، منها حلقة أذن خرجت من قبر آخر من مدفن أبو صيبع، طولها 1.45 سنتيمتر وعرضها 1.5 سنتيمتر. تتبع هذه الحلقة نسقاً بسيطاً تتكرّر نماذجه في البحرين، على شكل خاتم تزيّنه حبّتان من عرق اللؤلؤ تستقرّان في وسطه. يشكّل هذا النسق طرازاً من الأطرزة المعتمدة في صوغ حلقان الأذن التي تعدّدت أشكالها، ومنها طراز يتمثّل بحلقة تتدلّى منها قلادة مستطيلة تحوي في وسطها حبة لؤلؤة دائرية. يتجلّى هذا النمط في قطعة خرجت من مدافن تلال حمد خلال عام 1989، وهي من الذهب، وطولها 2.3 سنتيمتر، وتماثلها قطعتان خرجتا من موقع قلعة البحرين في ضاحية السيف التابعة للعاصمة المنامة. تجمع هاتان القطعتان بين الذهب والفضة، وتختلفان من حيث الحجم؛ إذ يبلغ طول إحداها 3.2 سنتيمتر، وطول الأخرى 2.6 سنتيمتر.
نقع على نمط آخر يتميّز بتبنيه تكويناً أكثر ابتكاراً، يحوي قلادة قوامها مجموعة كبيرة من اللآلئ مرصوصة في كتلة جامعة على شكل عنقود العنب. يحضر هذا المثال في قطعة من مدافن مدينة حمد، تعود كما يبدو إلى القرن الأول قبل الميلاد، وطولها 2 سنتيمتر. تتكوّن هذه الحلية من حلقة دائرية من الذهب تعلو عنقوداً يحوي 15 حبة لؤلؤية متفاوتة الأحجام، وتتدلّى من هذا العنقود حلقة صغيرة تحمل حبة لؤلؤية مستطيلة. نقع على قطعتين مماثلتين تشكّلان زوجاً من حلقات الأذن، وهما أكبر من حيث الحجم، ومصدرهما مقبرة تُعرف باسم الشاخورة نسبة إلى القرية التي تشرف عليها، وهي من أغنى مقابر البحرين الأثرية، وتحدّ مقبرة أبو صيبع من جهة الجنوب. يبلغ طول كل قطعة من هذين الزوجين 4.5 سنتيمتر، وعرضها 1.4 سنتيمتر، وتحوي عنقوداً لؤلؤياً حافظ على نحو 16 حبة من حباته.
تمثّل هذه القلائد رافداً من روافد هذه الحلل النسائية؛ إذ تشكّل العقود والأساور روافد أخرى تجمع بين اللؤلؤ وأحجار أخرى متنوّعة. تعيد هذه الحلل الأثرية إلى الذاكرة الآية التي تتحدث عن بحرين «يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان» (الرحمن 22)، وحسبما نقل الطبري في تفسيره: «اللؤلؤ ما عظُم منه، والمرجان اللؤلؤ الصغار»، «واللؤلؤ والمرجان إنما يخرج من أصداف بحر الأرض عن قَطْر ماء السماء، فمعلوم أن ذلك بحر الأرض وبحر السماء».
| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) .اضغط هنا
نسخ الرابط :