ترحيب الحكومة بخطة الجيش.. سلوك لا يعكس حقيقة موقفها

ترحيب الحكومة بخطة الجيش.. سلوك لا يعكس حقيقة موقفها

 

Telegram

على الرغم من نجاح المستوى السياسي اللبناني في تجنيب الشارع تداعيات الانقسام الذي سبّبته قرارات الحكومة في 5 آب/أغسطس، فإنّ التوجّه الأخير الذي تبنّته، لناحية الموافقة على توجّه قيادة الجيش اللبناني الذي تميّز بالواقعية حيث أعلن صراحة عن عدم استعداد الجيش للدخول في مواجهة داخلية وضع أسسها الكيان الإسرائيلي عبر ورقة توم برّاك، لا يعدّ كافياً لتوصيف سلوكها على أنه سلوك سيادي يعبّر عن توجّه وطني يستهدف البحث فقط في كيفية بناء الدولة القوية القادرة بعيداً عن الخضوع لإملاءات خارجية ظهرت واضحة في الفترة الأخيرة.

بالمبدأ، لا يعدّ التدخّل الخارجي الحالي في الشؤون اللبنانية جديداً حيث إنّ الواقع اللبناني كان يواجه دائماً هذا النوع من التدخّلات. فنشأة الكيان اللبناني عام 1920 لم يكن نتيجة طبيعية لتفاعل شعبي أدى في نتيجته إلى إرساء قواعد العيش المشترك وفق عقد اجتماعي حقيقي.

فالحدود التي تمّ ترسيمها في تلك المرحلة، أي بموجب اتفاقية سايكس بيكو، إضافة إلى شكل النظام وطبيعة التوازنات الداخلية، كانت تتوافق أكثر مع متطلّبات ومصالح الدول التي كانت تعتبر أنّ المنطقة بأسرها يجب ألّا تخرج عن كونها ساحة تتقاسم فيها نفوذها.

وبالتالي لم تنجح الدولة اللبنانية منذ نشأتها وحتى بعد استقلالها عام 1943 في إرساء نظام مستقر يولي اهتمامه فقط لكيفية تحقيق التكامل الاجتماعي الوطني والاستقرار المؤسسي، وبالتالي التماسك على مستوى القيم والمثل والأهداف.

فالتدليل على صحة هذه الخلاصة يستلزم فقط الإشارة إلى الحرب الأهلية اللبنانية التي اختصر تعريفها كلّ المحلّلين والمؤرّخين على أنها حرب الآخرين على أرض لبنان، مع الإشارة إلى أنّ نهايتها لم تكن نتيجة توافق داخلي وإنما نتيجة توافق دولي استهدف إرساء الهدوء والاستقرار في لبنان فقط من دون أن يسمح للمؤسسات الدستورية بالعمل على بناء نظام قوي عادل قادر على القيام بالمهام والوظائف التي من المفترض أنها سبب وجوده.

فاتفاق الطائف لم يقدّم ما يمكن اعتباره مساراً حقيقياً لبناء الدولة العادلة والقوية، ولم يضمن ما يمكن اعتباره وسيلة حقيقية فاعلة لتحرير الأرض، كما أنه لم يبحث في الآليات اللازمة لتوحيد الرؤى والقيم والمثل العليا بين أطياف الشعب اللبناني حيث إنه حافظ على صيغة المحاصصة الطائفية وربط إمكانية تطوير النظام السياسي بمسار يمكن وصف إمكانية تنفيذه بالمستحيلة، وتبنّى أيضاً خياراً غير واقعي لتحرير الأرض وذلك بالاستناد إلى آليات الشكوى والتنديد، وأهمل أيّ مسار عملي يستهدف محاولة صدّ عن أيّ اعتداء أو حرب تُشنّ على لبنان من دون أن ننسى عدم توافق ما أدّى إليه اتفاق الطائف مع فكرة الدولة السيّدة حيث إنّ توافقاً دولياً أدّى إلى فرض وصاية سورية برعاية عربية ودولية على الواقع اللبناني.

وعليه، لم يكن التحرير نتاج جهد مؤسساتي لبناني حيث إن المقاومة الشعبية هي التي تولّت هذه المهمة من دون أن ننسى أيضاً أنّ فترة الاستقرار والهدوء وحفظ السيادة اللبناني التي امتدّت منذ عام 2000 وصولاً إلى عام 2023 لم تكن إلا نتيجة قوة هذه المقاومة في حين أنّ الدولة اللبنانية لم تنجح طيلة هذه المرحلة في بناء استراتيجية دفاعية تستفيد من أدوات القوة التي أمّنتها المقاومة، بل إنها سمحت وشجّعت بالمقابل على جعل قوة المقاومة مادة للسجال السياسي، وساعدت في وضع سلاح المقاومة في دائرة الاستهداف الداخلي والإقليمي والدولي ملتزمة في توجّهها هذا بما اتفق عليه العرب من تخلّ عن مقاومة الأطماع التوسّعية للكيان والسماح له بتكريس وجوده كمتحكّم بمسارات السياسة الإقليمية والأمن الجماعي العربي.

بالطبع، ورغم عدم واقعية تصنيف كلّ الحكومات التي تعاقبت في لبنان في الخانة نفسها، أي الخاضعة لتوجّهات الأنظمة العربية المطبّعة والصامتة أمام التجاوزات الإسرائيلية، فإنّ تلك الحكومات التي تبنّت خيار المقاومة، من خلال ثلاثية الجيش والشعب والمقاومة أو من خلال الصيغ الأخرى، لم تكن تعبّر بالمبدأ عن قناعة معظم الأطياف اللبنانية بضرورة الحفاظ على شرعية المقاومة، وإنما كانت تعبّر في حقيقة موقفها عن احتكامها لتوازنات القوى الداخلية التي كان حزب الله يؤدّي فيها دوراً فاعلاً عنوانه هيبة لا يمكن مواجهتها بسهولة، بدليل أنّ أكثر تلك الأطياف قد عدّلت من موقفها وباتت تبحث عن موقع لها في التوازنات الجديدة التي تفترض أنّ حزب الله قد ضعف وبات من الممكن تخطّيه.

وعليه، تشكّل الحكومة الحالية نموذجاً واضحاً لهذا الواقع حيث إنها لم تضع في أعلى سلّم أولوياتها ضرورة البحث في كيفيّة بناء الدولة القوية وممارسة السيادة الحقيقية التي تعني أولاً عدم الخضوع للخارج ومقاربة الإشكاليات التي تواجهها بمسؤولية وطنية. فالحديث عن تطبيق ما نصّ عليه اتفاق الطائف يجب ألّا يقتصر على نزع سلاح أقلق الإسرائيلي وكان سبباً لدفعه للانسحاب من لبنان بما شكّل حالة فريدة لطرد الإسرائيلي من أرض عربية بالقوة، وإنما كان من المفترض أن تقارب تطبيق اتفاق الطائف انطلاقاً من الإشكاليات التي تعيق مسار بناء الدولة.

فبالتوازي مع بحثها في مقاربة تشرّع سلاحاً يشكّل التخلّص منه مطلباً دولياً يستهدف تحويل لبنان إلى ساحة نفوذ إسرائيلي، كان من المفترض بمن يتبنّى شعار بناء الدولة أن يطرح على بساط البحث إشكاليات تتعلّق بتطوير النظام وتحصينه من خلال العمل على إرساء عدالة اجتماعية وسياسية تعتبر ضرورية لتحقيق حلم تحويل المجتمعات الطائفية اللبنانية إلى مجتمع موحّد ومتماسك.

حتى اليوم، تظهر الحكومة اللبنانية التزاماً صارماً بما يطلبه الخارج لناحية التركيز على معالجة ملف واحد وفق أهداف لا تناسب الواقع اللبناني بالمطلق، إذ إنّ نزع سلاح المقاومة لا يخرج عن كونه مطلباً إسرائيلياً أميركياً بامتياز.

أما بالنسبة لما صدر عنها في جلستها الأخيرة، فإنه لم يدلل على قناعة بضرورة عدم الخضوع لورقة برّاك وللكيان الإسرائيلي وضرورة مقاربة الواقع اللبناني وفق المصلحة الوطنية فقط، وإنما أمكن وضعه في إطار التسليم بعدم القدرة على تنفيذ التعهّدات التي قطعتها بعض القوى السياسية للخارج حيث إنّ واقعية وعقلانية الرؤية التي يتبنّاها قائد الجيش، لناحية عدم القدرة وفقدان الإمكانات إضافة إلى لمس مدى تصلّب بيئة المقاومة في مواجهة أيّ محاولة للمسّ بما تعتبره ضمانة لها في مواجهة أخطار، لا ترتبط حصراً بالكيان الإسرائيلي وإنما في مواجهة الخطر التكفيري الفاعل على الحدود الشرقية والخطر الداخلي الذي يمثّله اليمين المتطرّف المسيحي، كانت السبب الرئيسي لما صدر عنها.

وبالتالي، لا يمكن النظر إلى موقفها الأخير على أنه عودة عن خطيئة كادت أن تودي بلبنان إلى الانفجار، وإنما يمكن اعتباره بمثابة إعادة تموضع مرحلي بانتظار نضوج آليات فاعلة تحلّ مكان التي كانت تفترض أنها كافية لتحقيق ما تعتبره مهمة مقدّسة بالنسبة إليها.

تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

 

Telegram