حين يصبح الشارع مدرسة للديمقراطية أو منبرًا للفوضى

حين يصبح الشارع مدرسة للديمقراطية أو منبرًا للفوضى

 

Telegram

 

الدكتورة رشا أبو حيدر

يُعتبر الشارع في الأنظمة الديمقراطية مساحة للتعبير الشعبي وممارسة الضغط المشروع على السلطة. فهو يشكّل الامتداد الطبيعي لمبدأ أن الشعب مصدر السلطات، ومن خلاله يعبّر المواطنون عن مطالبهم بعيدًا عن الأطر التقليدية للعمل السياسي) التظاهرات السلمية، الاعتصامات، والإضرابات)، كلّها أدوات مُعترف بها دوليًا، وكرّستها الدساتير الوطنية باعتبارها حقوقًا أساسية في حرية الرأي والتجمع والتنظيم.

لكن، ما إن يتحوّل الشارع إلى وسيلة دائمة لتعطيل المؤسسات أو فرض إرادات بالقوة، حتى يصبح خطًا فاصلًا بين الديمقراطية والفوضى. هنا تُطرح أسئلة مشروعة: هل يُمكن لمطالب محقّة أن تفقد مشروعيتها إذا اتخذت أشكالًا عنيفة أو خارجة عن القانون؟ وهل يملك الشارع حقًا غير محدود في مواجهة مؤسسات منتخبة دستوريًا؟

القانون الدستوري يوفّر الإطار للإجابة: فحق التظاهر مكفول، لكنه مقيّد بمبدأ النظام العام وحماية الحقوق والحريات للآخرين. أي أن الحرية لا تتحوّل إلى أداة للهيمنة، بل تبقى ضمن حدود المصلحة العامة. على المستوى الدولي، أكدت العهود والمواثيق أن حرية التعبير والتجمع السلمي جزء لا يتجزأ من حقوق الإنسان، غير أن أي خروج عن السلمية يُعطي السلطات مبررًا للتدخل، بل ويضعف شرعية التحرك نفسه.

من هنا، يصبح التوازن الدقيق بين الحق في الاحتجاج وحماية الدولة هو المعيار الأساسي. فالشارع يمكن أن يكون مدرسة للديمقراطية إذا التزم بالقانون، لكنه يتحول إلى أداة فوضى إذا استُعمل لنسف الشرعية أو استبدال المؤسسات المنتخبة بسلطة الأمر الواقع.

إن الديمقراطية الحقيقية لا تعني إلغاء الشارع ولا تقديسه، بل تنظيم العلاقة بينه وبين المؤسسات. الشارع أداة ضغط، والدستور هو المرجع، والنظام العام هو الضابط. وبين هذه الثلاثية، يمكن لأي مجتمع أن يحافظ على صوته العالي دون أن يسقط في فوضى عمياء.

في الحالة اللبنانية، حيث تعيش المؤسسات الدستورية أزمة ثقة مزمنة، يصبح الشارع مساحة طبيعية للتعبير عن الوجع الشعبي. غير أن التجارب المتكررة أظهرت أن الإفراط في الاعتصامات أو قطع الطرقات أو تعطيل المؤسسات لم يؤدِّ إلى حلول دائمة، بل عمّق الانقسام وفتح المجال أمام قوى خارجية لملء الفراغ.

اللبنانيون اليوم مدعوون إلى تحويل الشارع من منصّة للفوضى إلى أداة ديمقراطية منظّمة. وهذا لا يتحقق إلا عبر التظاهر السلمي، تقديم العرائض، الضغط الإعلامي والقانوني، وربط أي تحرّك بمشروع إصلاحي واضح بدل الاكتفاء بالشعارات.

إن بناء الدولة يتطلّب معادلة بسيطة:

- الشارع للتعبير.

- المؤسسات للقرار.

- الدستور للحَكَم.

وعبر هذا التوازن، يمكن للبنان أن يحافظ على صوته العالي دون أن يفقد استقراره، وأن يبقى الشارع وسيلة ضغط شرعية لا أداة فوضى مدمّرة.

 

 

 

تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

 

Telegram