لا يزال رياض أبو دقة والد مصورة "اندبندنت عربية" في غزة مريم غير مقتنع أن ابنته قتلت في غارة إسرائيلية على مستشفى ناصر في مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة، يقول الأب "رحل جسد حبيبتي عن الدنيا، لكن لا يزال جزء منها على قيد الحياة، كلية مريم في جسدي، وفي نظري مريم لم تمت".
صرخ الأب رياض بصوت عال "مريم لم تمت، كليتها في جسدي، تعيش معي ولم توارَ في الثرى، هذا الجزء من جسدها الذي أحتضنه داخلي لا يزال على قيد الحياة، لا بل ينقذني من مرض خطير ويجعلني سليماً معافى".
مرض الأب
في عام 2017، مرض الأب رياض وأصابه إعياء شديد، وعندما زار المستشفى تبين مع الأطباء أنه مصاب بفشل كلوي حاد، وأن كليتيه الاثنتين عاجزتان عن أداء وظائفهما.
دخل والد مصورتنا الراحلة مريم أبو دقة في حالة مستعصية، وانهارت قواه وساءت حالته النفسية كثيراً، وشملت رحلة علاجه غسيل الكلى ثلاث مرات أسبوعياً، وعلى رغم ذلك لم تتحسن صحته، فمرضه كان يشتد حتى باتت فرص علاجه قليلة جداً.
بعد مشاورات طبية، نصحه العاملون الصحيون بإيجاد متبرع يرغب في استئصال كلية واحدة من كليتيه. كانت زميلتنا الراحلة مريم أبو دقة شاهدة على هذا الحديث تسمعه بعمق واهتمام وفي نفسها تخطط لإنقاذ والدها المرهق صحياً.
التعايش مع المرض
غادر رياض المستشفى وهو على يقين بأنه لن ينجو من الفشل الكلوي، يضيف "كنت أسأل نفسي كيف أجد متبرعاً يفرط بكلية ويقدمها لي كتبرع، هذا الأمر لا يحدث إلا في الخيال والمسلسلات، نادراً ما يحدث على أرض الواقع". تمدد الأب على فراشه وأخذ يقنع نفسه بالتعايش مع مرض الفشل الكلوي، لكن زميلتنا الراحلة كانت تخطط لأمر مختلف ولديها رغبة شديدة في إنقاذ حياة والدها، وتفكر جدياً في التبرع بكليتها لأجل والدها.
هكذا هي مريم أبو دقة كانت إنسانية جداً، وهذه هي صفاتها لا ترغب في رؤية أحد يتألم وترفض أن تقبل شعور الآخرين بالجوع، وتفعل ما بوسعها لأجل أن تنقذ الإنسان، وتساعد الآخرين من دون مقابل ولا تنتظر الشكر.
ولما أصاب والدها الفشل الكلوي قررت التبرع له بكلية من جسدها لتنقذ حياته، قررت مريم فعل ذلك وحدها واتخذت القرار وصممت عليه وأخذت تفكر كيف تقنع أبوها بالأمر. كانت عزيزتي مريم أقرب الأبناء والبنات على قلب أبوها، بينهما قصة حب وتفاهم وأخوة وعلاقة أب لابنته، والصداقة التي تربطهما كانت قوية جداً، فالأب رياض مخزن أسرارها وهي حافظة سره كذلك، لقد عاشت بارة بوالديها كثيراً.
بينما كان الأب رياض يمدد جسده على فراشه ويفكر في مرضه، اقتربت منه مريم وقبلت جبينه ويده، وهمست في أذنه "سلامتك بابا… سوف تتعافى قريباً". ابتسم الوالد لها وهز برأسه، يؤكد أنه فهم معنى كلامها حتى قبل أن تفتح معه الموضوع. بادر الأب رياض وقال لمريم "لن أقبل ما تفكرين به، لن أوافق قطعاً". قطعت مصورتنا الراحلة الحديث "بل ستقبل، سأجري غداً جميع الفحوصات، وإذا تطابقت وكانت النتائج إيجابية سأتبرع لك بالكلية خاصتي، لن ترفض… هل هذا مفهوم؟".
ضحك الأب وحضن ابنته، وفي صباح اليوم التالي أجرت مريم أبو دقة جميع الفحوصات المطلوبة، وكانت النتائج إيجابية. بسرعة أحضرت والدها للمستشفى ووقعت أمامه ورقة موافقتها على التبرع له بكليتها وزراعتها في جسده. حاول الأب رياض الاعتراض لكن تصميم مريم كان أقوى من رفضه، وبالفعل تبرعت له بكليتها. حدثتني زميلتي أنها فعلت ذلك لتنقذ والدها من الوجع والألم ولتبقيه سالماً معافياً، فهي لا تقبل أن يعيش المعاناة يومياً أمام عينيها.
"أنقذت حياتي"
يقول الأب رياض "أنقذت مريم حياتي، الفشل الكلوي الذي أصابني في الكلتين كان حاداً جداً وكنت متعباً، كلية مريم معي تذكرني فيها، وأرفض أن أقنع نفسي بفقدانها، كانت قريبة لقلبي وصديقتي، بيننا قصة تفاهم جميلة". ويضيف "أحب مريم أكثر أبنائي، ليلة أمس تخيلتها جالسة إلى جانبي، طيلة الليل أتحدث معها، كأنها موجودة جانبي تكلمنا عن صغرها وحتى كبرت وحتى عندما رحلت من أمام عيوني، كانت بارة بي وبوالدتها". يبكي الأب رياض ويسرد آخر يوم رأى فيه ابنته مريم "أتتني قبل مقتلها بليلة، وجلست مدة طويلة جداً وهذا لا يحدث إلا قليلاً، وودعتنا جميعاً وكأنها شعرت أنها في أيامها الأخيرة".
حين تبرعت بكليتها لوالدها، لم يكن فعلها سوى جزء الوفاء، ولذلك يعيش الأب رياض حزناً مؤلماً على فراق ابنته مريم التي لا ذنب لها سوى أنها تنقل الصورة الحقيقية وتكشف الانتهاكات الإسرائيلية.
نسخ الرابط :