تفصلنا أسابيع معدودة عن بداية العام الدراسي الجديد، والصورة تبدو قاتمة في صدد قدرة مليون طالب من العودة إلى مقاعد الدراسة بعد سنتين مضتا، تعرَّض خلالهما القطاع التربوي في لبنان إلى تداعيات الانهيار الاقتصادي-المالي وجائحة الكورونا والتأثيرات الناجمة عن الإغلاق العام.
فالأزمة الاقتصادية العميقة تلقي بثقلها الضخم على النظام التعليمي في لبنان، فتؤثِّر بشكلٍ مباشرٍ على قدرة الأسر على الاستثمار في تعليم أبنائها وبناتها، كما كان الحال قبل عام 2019. فأكثرية الأسر اللبنانية (70 بالمئة) كانت تعتمد على المدرسة الخاصة، ولاسيَّما في المرحلتين الابتدائية والمتوسطة. وقد قُدِّرت حصة قطاع التعليم الخاص في لبنان قبل الأزمة بنحو 1,3 مليار دولار، وجُلُّها هو ما كانت تدفعه الأسر لتغطية كلفة “الأقساط” المدرسية من خلال مداخيلها ومُدَّخراتها، التي تبخَّرت بفعل الأزمة (في المصارف) أو خَسِرَت معظم قيمتها. وهذا الأمر يجعل الانتقال إلى المدرسة الرسمية الملاذ الطبيعيَّ مع وقوع أكثر من نصف اللبنانيين في الفقر وعدم قدرة الأكثرية الساحقة من الأُسَر على تأمين أقساط المدارس الخاصة. وكان حوالى 55,000 طالب قد انتقلوا من المدارس الخاصة إلى المدارس الرسمية خلال العام الدراسي الفائت (00-2021)، الأمر الذي يؤشِّر إلى تحوُّل الكثير من الأُسَر إلى المدارس الرسمية. لكن، هل المدرسة الرسمية جاهزة لاستقبال عشرات الآلاف من التلاميذ؟
هناك خمس عقبات تجعل المدرسة الرسمية غير مهيَّأة للعام الدراسي المقبل:
أولًا: توزُّع المدارس الرسمية الجغرافي لا يتطابق مع الواقع السكاني، حيث تسكن الكتلة السكانية الكبرى في بيروت وجبل لبنان (نحو نصف سكَّان لبنان)، علمًا أن نسبة المدارس الرسمية على السكان تُعدُّ الأدنى في هاتين المحافظتين تحديدًا. ففي جبل لبنان يوجد مدرسة رسمية لكل 14,236 نسمة، مقارنةً بمدرسة رسمية لكلِّ 4,921 نسمة في النبطية، ومدرسة رسمية لكلِّ 3,189 نسمة في عكار، وذلك بحسب بيانات “مشروع مسح واقع التنمية المحلية والريفية للمناطق اللبنانية”، المنشورة على منصَّة إدارة التفتيش المركزي. هذا الواقع سيضع الأُسَر اللبنانية المقيمة في بيروت وجبل لبنان أمام خيارات صعبة، كالانتقال إلى أماكن أخرى أو تكبُّد كلفة نقل أولادهم إلى مدارس بعيدة عن أماكن سكنهم.
ثانيًا: تدنِّي قيمة رواتب المعلمين بشكلٍ كبيرٍ مع التضخُّم الحاصل.
فرواتب المعلمين في القطاع الرسمي كانت مقبولةً قبل الأزمة إذ كانت تُضاهي معدَّلات الدول متوسِّطةِ الدخل وبعض الدول المتقدِّمة اقتصاديًّا، إذا ما احتسبنا “معدَّل الراتب على التلميذ” الذي كان يُقدَّر قبل الأزمة بـ 1,556 دولار سنويًّا للصفوف الأساسية، و2,428 دولار للصفوف المتوسطة والثانوية. أمَّا مع الانهيار الحالي فقد هبطت قيمة الرواتب إلى مستويات منخفضة لتتراوح بين 120 و 150 دولارًا شهريًّا، بما سيجعل المعلمين غير قادرين على تأمين معيشتهم وتغطية انتقالهم إلى العمل، خصوصًا مع ارتفاع سعر البنزين المتصاعد الذي يُتوقَّع أن يرتفع أكثر خلال الأشهر القادمة.
ثالثًا: هجرة المعلمين والمعلمات، وقد ارتفعت بشكلٍ ملحوظٍ خلال العام الحالي، وهي ستظهر بوضوح أكثر فأكثر مع العودة إلى التعليم المؤسَّسي في الخريف المقبل. وهذا يرتبط بتدهور قيمة رواتب المعلمين وتردِّي الأوضاع الحياتية في لبنان، الأمر الذي يضغط بقوة في اتجاه الهجرة، حيث يُقدَّر أنَّ مئات المعلمين قد هاجروا فعليًّا أو لديهم النية للقيام بذلك. يُشارُ إلى أنَّ التعليم هو من الوظائف العشر الأولى المطلوبة في كثير من البلدان، كدول الخليج العربي وأستراليا وغيرها من الدول التي تستقطب المهاجرين.
رابعًا: كلفة التدفئة الباهظة في المدارس.
تتكبَّد المدارس في المناطق الجبلية الواقعة على ارتفاع 700 متر عن سطح البحر فما فوق وكذلك في البقاع كلفةً عاليةً لتغطية المحروقات للتدفئة، إن وُجِدَت، خلال فصل الشتاء. فإذا احتسبنا الكلفة على أساس سعر المازوت في السوق الحالية المُقدَّر بـ 11 مليون ليرة للطُّن، فستتكلَّف المدرسة الرسمية ذات الحجم المتوسط على التدفئة فقط ما يقارب 275 مليون ليرة، وهو مبلغ لن تتمكَّن وزارة التربية تأمينه بمعظمه من خلال موازنتها الحالية المُحتَسَبة على أساس السعر الرسمي.
خامسًا: كلفة احتياجات الطلاب الكبيرة من الكتب والقرطاسية، التي تضخَّمت أسعارها بشكلٍ كبيرٍ مع انهيار سعر الليرة. ففي احتسابنا كلفة القرطاسية الأساسية لكل تلميذ (من أقلام ودفاتر وحقيبة وغيرها من الضرورات الأخرى) تبيَّن أنَّها تُقدَّر بحدِّها الأدنى بنحو 479,500 ليرة لبنانية لكل طالب، أي ما يقارب 71% من الحدِّ الأدنى للأجور.
ما العمل؟
يجب القيام بخطوات عملية وسريعة تنقذ المدارس الرسمية وتجعلها أكثر جاهزية لاستقبال آلاف الطلاب خلال الأسابيع المقبلة:
أولًا: إنشاء “صندوق” دعم لكل مدرسة رسمية تُديرُهُ لجنة مشتركة من المجتمع المحلي -حيث توجد المدرسة- وكذلك الأهل والمنظمات الدولية، لتعمل مع إدارة المدرسة على تأمين المساعدات المُلِحَّة عبر طرق عدَّة، منها على سبيل المثال: توأمة المدرسة مع مدارس في دول غنية، لتغطية المحروقات والكتب والقرطاسية وكلفة النقل، بالإضافة إلى علاوات وحوافز للمعلمين، على أن يكون عمل هذه الصناديق شفَّافًا وضمن معايير الحوكمة الرشيدة.
ثانيًا: الإسراع في تنفيذ الاتفاقية الموقَّعة مع “البنك الدولي” لمشروع شبكات الأمان الاجتماعي، الذي يلحظ من خلال برامجه معونة نقدية إضافية للأُسَر التي لديها أطفالاً في المدارس كي يحفزها على الانخراط في التعليم.
ثالثًا: استخدام جزءٍ من المساعدات المُعلن عنها في “مؤتمر دعم لبنان” المنعقد في 4 آب 2021 للاستثمار في المدارس المهنية والتقنية التي تشكِّل 23% فقط من مدارس لبنان. فتوجيه الطلاب نحو التخصُّصات المهنية والتقنية وربط ذلك بحاجات سوق العمل الحالية والمستقبلية هو من التوجُّهات الاستراتيجية التي ينبغي لمُتَّخِذي القرار والمنظمات العاملة في لبنان تبنِّيها، وذلك من خلال الاستثمار في بنى هذه المعاهد والمدارس الفنية ومختبراتها وتنويع تخصُّصاتها.
إنَّ لإنقاذ القطاع التعليمي في لبنان أهميةً استراتيجيةً بجسامة الحفاظ على الاستقرار الأمني ومؤسسات الجيش والقوى الأمنية. فتداعيات انهيار التعليم ستنجم عنه أجيال ضائعة ولن يكون في الإمكان التعويض عن الخسائر الحاصلة قبل مُضيِّ عقود من الزمن. وهذا يتطلب، بادئ ذي بدءٍ، قيادة مسؤولة ومتماسكة لهذا القطاع، تستطيع العمل مع الأسرة التعليمية والأهل والمجتمع المحلي والهيئات المانحة بجدية وحكمة لحماية مليون تلميذ من سقوط رهيب.
مرصد الأزمة في الجامعة الاميركية في بيروت مبادرةٌ بحثيةٌ تحت إشراف د. ناصر ياسين تهدف إلى دراسة تداعيات الأزمات المتعدِّدة في لبنان وطرق مقاربتها.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :