لم تزل أصداء التحقير الموصوف الذي ارتكبه الموفد الأميركي من على منبر “السيادة” تتردّد في فضاء البلاد.
ولم يزل الذين صمّوا عن الإهانة المشهودة آذانهم وقالوا “عم تشتّي” يتباهون برذاذ الازدراء العالق على وجوههم، إذ استبدلوا ماءها بوحل تبرير ابتلاع الإهانة، أو البحث عن مسوّغات لها، أو ببساطة تجاهلها والتعتيم عليها، كأنّها مجرّد تفصيل معتاد في يومياتهم.
لطالما مارس سياديّو الخواء المعرفيّ والفراغ المهنيّ كتابة الهراء وإعداد التّرّهات كمواد صحافية، بذريعة حرية الصحافة في لبنان.
ولطالما اجتهد أهل الخيانة في صياغة خياناتهم كرأي مكتوب أو مذاع، وبذريعة قداسة الحقّ بالتعبير، بلغنا حضيضًا باتت فيه الخيانة وجهة نظر.
ثمّ جاءهم موفد أميركي يأتمرون بأمره،و يتنافسون على نيل رضاه، فأهان الصحافة التي تتباهى بحريّتها بين أقرانها في البلاد، وازدرى أهلها الذين يحرصون على الحقّ بالتعبير حتّى عن التطرّف في الخيانة ونصرة العدوّ.
وقف على منبر يُمثّل رأس هرم الدولة، على الأقل بالاعتبارات الشكلية والبروتوكولية المتعارف عليها، ثمّ بفظاظة وسفاهة قال لهم إنّهم يتصرفون “بحيوانيّة”.
كيف تفاعل الإعلام المُهان في هذه المشهدية؟ إليكم بعض التفاعلات:
يتصفّح القارىء صحيفة نداء الوطن بحثًا عن جملة تُدين الحادثة، أو حتّى عن خبرٍ موضوعيّ حولها.
أبدًا. بدا أنّ نداء الوطن التي تسارع إلى تغطية زيارة الموفدين الأميركيين ومتابعتها خطوة خطوة، فتنقل إلينا كلّ همساتهم وتحرّكاتهم ولا تستثني منها إلّا ساعات نومهم، فاتها ما حدث أمام الكاميرات، إذ لم تكن على السمع.
خرس صوت النداء المبحوح في حماية حريّة الصحافة المشبوهة والحق بالتعبير عن العداء للمقاومة.
صحيفة النّهار، الصرح العتيق الذي يحرص ديكه على الصياح كي يبزغ فجر الخبر وشمس الأحداث، أسدلت على الإهانة ستار الظلام، وآثرت التعتيم على الإهانة كي يسهل ابتلاعها عوض الصياح رفضًا لها.
والأمر طبيعي قياسًا بما يبتغي ديك النهار الصياح لأجله، وبما يحوّله إلى مجرّد صوص بلا حول ولا قوّة، يخفي وجهه في ثنايا تسريحة مورغان أورتاغوس، أو يغرق في تفاصيل اختيارها لدرجات ألوان ملابسها ودلالاتها، ويضحك فخرًا بصورة لها نالها أثناء تصرّفها بسوقية وسفاهة يحسبها الدونيون المنبطحون تحضّرًا وظرافة.
في المرئي، لم تكن التفاعلات على المنصات المتأمركة أفضل حالًا. هل تعلمون مثلًا أن قناة Mtv ترجمت كلمة “animalistic “(حيوانيّ) إلى “أتوسّل إليكم”؟ كان الأمر هنا أشبه بكوميديا ركيكة، تعتمد على استغباء المشاهد واحتقار أدنى معارفه اللغويّة، وأدنى معايير الكرامة الإنسانية.
بسلاسة، ابتلعت القناة المذكورة الإهانة باعتبارها سلوكًا طبيعيًا واعتياديًا لا يستوجب الوقوف عنده، وحاولت إرغام المشاهدين على ابتلاعها بالسلاسة ذاتها.
وكأنّها تقول لهم: كذّبوا آذانكم إن سمعتْ شتيمة من لسان أميركي، وتذكّروا أنّ عليكم فقط أن تحسبوا التحية الودودة ممّن يعادي الأميركي إهانة.
على منابر منصّات التواصل، والتي اتّخذها السياديون المنبطحون ملاذًا للتعبير عن كلّ هراء يجول في بالهم، احتدّ بيتر جرمانوس من جهل السامعين، ومن ضمنهم ربّما قناة CNN، فجاء بنظرية تدين الأذان التي سمعت كلمة animalistic (حيوانيّ) وتجرّمها، وحكم بأن اللفظ الذي جاء على لسان سيّده كان anomalistic (غير طبيعي).
تلك التخريجة لم تخطر حتّى في بال الأميركيين. مرّة جديدة، أثبت بيتر، القاضي المطرود لسوء سلوكه المهنيّ في سلك القضاء، أنّه يمكن للعبد أن يكون ملكيًّا أكثر من الملك.
وللأسف، لم يجد بيتر كلمة لطيفة يتشابه لفظها مع كلمة “chaotic” فاعتبرها مفردة عاديّة، ومعذور في ذلك، فمن هان سهل الهوان عليه.
بدوره، سارع الإعلامي بسام أبو زيد إلى تبنّي نظرية جرمانوس، وآثر التشكيك في أذنيه على تصديق أن كبيرهم الذي يوفده إليهم مالك أمرهم يخطىء! أمّا ريكاردو شدياق، الذي اشتهر ببهجته بالصورة “السِلفي وبسمة مورغان” خلفه فقد كان أوّل المعبّرين عن انعدام الكرامة المهنية إذ شكَّل هذا اليوم فرصته التي قد لا تتكرّر للاجتماع مع الموفدة الأميركية في “كادر” واحد، ولو جاء ذاك بعد إهانة شهد عليها العالم أجمع.
تطول لائحة من قالوا “الدنيا عم تشتّي”، ولائحة من تبسّموا كالعبيد إثر ضربة السّوط على خاصرة كرامتهم وقالوا لسيّدهم “سلمت يدك”.
تطول بقدر ما كثرت أسماء من فقدوا على رصيف الهوى الأميركي كلّ فطرتهم الإنسانية بما حوَت من عزّة وإباء وكرامة، واستحالوا وحوشًا مروّضة تعتاش على ما يرمي إليها سيّدها من فتات داخل قفص التّبعية والانبطاح..